– وقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات . . . } إلى قوله تعالى : { وإن فاتكم شيء من أزواجكم } :
نزلت هذه الآية إثر صلح الحديبية ، وكان ذلك الصلح قد تضمن أن يرد المؤمنون إلى الكفار كل من جاء مسلما من رجل أو امرأة ، وتقرر ذلك بالسنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم . فنسخ الله تعالى من ذلك أمر النساء بهذه الآية ، وحكم بأن المهاجرة المؤمنة لا ترد إلى الكفار بل تتقي وتستبرأ وتتزوج ويعطي زوجها الكافر الصداق الذي أنفق ، وهذا من نسخ السنة بالقرآن ، واختلف في الرجال هل أمرهم في ذلك منسوخ كالنساء ولا تجوز المهادنة على مثله أو محكم فتجوز المهادنة حتى الآن عليه على قولين الأظهر منهما أنه محكم لأن الناسخ لذلك غير معلوم وإنما أخذه من أنه لا يجوز إقامة المسلم بدار الشرك ، ومثل هذا لا يكون به نسخ ، وقد رد إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا جندل {[10692]} وأبا بصير {[10693]} وسمى الله تعالى في هذه الآية المهاجرات مؤمنات قبل أن يعلم إيمانهن إنما كان ذلك ظاهر أمرهن {[10694]} .
وقوله تعالى : { فامتحنوهن } : معناه فجربوهن واستخبروا ما عندهن ، واختلف أهل العلم في كيفية هذا الامتحان . فقيل بأن تستحلف المرأة بأنها ما هاجرت لبغض زوجها ولا لجريرة جنتها ولا لسبب من أغراض الدنيا سوى حب الله تعالى ورسوله والدار الآخرة ، قاله ابن عباس وعكرمة وقتادة وغيرهم . وقيل هو بأن تطلب بأن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فإذا فعلت ذلك لم ترد ، قاله ابن عباس أيضا ، وقيل هو أن تعرض عليها الشروط التي في الآية بعد هذه من ترك الزنا والسرقة والبهتان والعصيان ، فإذا أقرت بذلك فهو امتحانها ، قالته عائشة وغيرها . واختلفت في المرأة التي جاءت من الكفار بعد عقد الصلح مسلمة فنزلت هذه الآية بسببها فلم ترد إلى الكفار ، فقيل أميمة بنت بشر امرأة أبي حسان الدحداحة {[10695]} وقيل سبيعة بنت الحرث ولما خرجت جاء زوجها فقال : يا محمد ردها علينا فإن ذلك في الشرط لنا عليك ، وهذه طينة كتابنا لم تجف فنزلت الآية ، فامتحنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يردها وأعطى لزوجها مهرها {[10696]} .
وقوله تعالى : { فإن علمتموهن مؤمنات } : والعلم بذلك لا يمكن . معناه علمتم ظاهر قولهن .
وقوله تعالى : { لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن } : ذكر تعالى في هذه الآية أن العلة في أن لا يرد إلى الكفار النساء امتناع الوطء . وفيه دليل على ارتفاع النكاح ، ودليل على أن المنع من الرد لمكان الإسلام . فإنه تعالى قال : { فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار } فلم يجعل الفرقة لاختلاف الدار على ما قاله أبو حنيفة ، وإنما جعلها للإسلام .
وقوله تعالى : { وآتوهم ما أنفقوا } : أمر الله تعالى بأن يعطى الكفار مهور نسائهم اللائي هاجرن مؤمنات . وقد ذكرناه فيما قبل .
قوله تعالى : { ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن } : رفع تعالى الجناح في أن يتزوج بأجورهن ، وهي الصدقات . وقد ذكرنا ذلك أيضا .
قوله تعالى : { ولا تمسكوا بعصم الكوافر } : اختلف فيه ، هل هذا النهي عن إمساك الرجال والنساء أو عن إمساك النساء خاصة . فذهب بعضهم إلى أنه في الفريقين . قال أبو علي الفارسي {[10697]} سمعت الليلة أبا الحسن الكرخي {[10698]}يقول في تفسير قوله تعالى : { ولا تمسكوا بعصم الكوافر } أنه في الرجال والنساء . فقلت له : النحويون لا يرون هذا إلا في النساء لأن الكوافر جمع كافرة . قال : وأي شيء يمنع من هذا ؟ أليس الناس يقولون : طائفة كافرة وفرقة كافرة . فبهت وقلت هذا تأويل{[10699]} والمشهور أنه في النساء ، ولا خلاف أنه كان لا يمسك من النساء من كان مجيؤها هربا من زوجها خاصة ، وما جاء من الرجال كذلك . وهذه الآية تقتضي ذلك ، وأنه إذا أسلم الرجل وله امرأة ، وقعت الفرقة بينهما . إلا أنه اختلف في الكوافر المعينات بالآية من النساء من هن ؟ فقيل : عابدات الأوثان ومن لا يجوز نكاحه . والآية على هذا محكمة . وقيل هي عامة للنساء الكافرات عابدات الأوثان وغيرهن من أهل الكتاب {[10700]} . والآية على هذا القول قد نسخ منها نساء أهل الكتاب لأن نكاح المؤمن إياها ثابت ، فإذا أسلم الزوج لم تقع الفرقة بينهما ، وفي تسمية مثل هذا نسخا خلاف ، وقد مر الكلام عليه في غير موضع {[10701]} .
قوله تعالى : { واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا } : أمر الله تعالى في هذه الآية المؤمنين أن يسألوا الكافرين ما أنفقوا من الصدقات على من تزوجوه من نسائهم اللائي فررن إليهم {[10702]} كما لزم المؤمنين أن يعطوا الكفار ما أنفقوا من الصدقات على نسائهم الفارات إليهم ، فلذلك قال تعالى : { واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا } وقرر الحكم بذلك على الجميع . فروي أنه لما نزلت هذه الآية قالت قريش نحن لا نرضى هذا الحكم ولا نلتزمه ولا ندفع لأحد صداقا ، فنزلت بسبب ذلك هذه الآية الأخرى : { وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار } فأمر المؤمنين إذا أبى الكفار من دفع الصدقات على الوجه الذي تقدم أن يدفعوا إلى من فرت زوجته منهم ففاتت بنفسها إلى الكفار صداقه الذي أنفق . واختلف العلماء من أي مال يدفع إليه الصداق ؟ فقيل يدفع إليه من الصدقات التي كانت تدفع إلى الكفار بسبب من هاجر من أزواج الكفار فأزال الله تعالى دفعها إليهم حين لم يرضوا بحكمه حسبما تقدم . قاله ابن شهاب ، وهو قول حسن يقتضيه قوله تعالى : { فعاقبتم } . وقيل يدفع إليه من مغانم المغازي ، قاله مجاهد وقتادة ، وقال : المعاقبة : الغزو والمغنم . وعاقبتم ، وعقبتم سواء ، أي أصبتم غنما ، وقيل يدفع إليه من أي وجوه الفيء أمكن ، قاله الزهري أيضا . وقد قال بعض المفسرين في هذه الآية كلها إنها مما رفع حكمه وبقي رسمه لأنها كلها نزلت في شيء بعينه لعلة بعينها ، فلما زالت العلة ارتفع الحكم ، وذلك أنها نزلت في مهادنة النبي صلى الله عليه وسلم مشركي العرب من قريش وغيرهم . فزال حكم الهدنة ، إذ لا يجوز لنا اليوم أن نهادن أحدا منهم لقوله تعالى : { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } [ التوبة : 5 ] ، فلما ارتفع حكم الهدنة بالآية في مشركي العرب ارتفع حكم الآية بعدم وجود الهدنة ، فإنما الهدنة باقية بيننا وبين أهل الكتاب وبين المجوس لقوله عليه الصلاة والسلام : " سنوا بهم سنة أهل الكتاب " {[10703]} ولا هدنة بيننا وبين مشركي العرب ، إنما هو الإسلام أو السيف ، لأن الآية بينت ذلك إذ قال تعالى : { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } ، وقال في أهل الكتاب : { حتى يعطوا الجزية عن يد } [ التوبة : 29 ] فبان أن الآية ناسخة للهدنة بيننا وبين مشركي العرب . فلما زالت الهدنة بالآية زال أيضا حكمها ، ولهذا قال بعضهم أيضا {[10704]} عن قتادة أن ما في هذه الآية منسوخ بما في براءة ، حكي عن الزهري أنه قال : انقطع هذا يوم الفتح .