– قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة . . . } : إلى آخر السورة :
سأل مالك بن شهاب – على ما وقع في الموطأ – عن قوله تعالى : { فاسعوا إلى ذكر الله } . فقال ابن شهاب : كان عمر بن الخطاب يقرأها فامضوا إلى ذكر الله . قال مالك : وإنما السعي في كتاب الله تعالى الفعل لقوله تعالى : { وإذا تولى سعى في الأرض } [ البقرة : 205 ] . وقال : { وأما من جاءك يسعى ( 8 ) } [ عبس : 8 ] ، وقال : { ثم أدبر يسعى ( 22 ) } [ النازعات : 22 ] ، وقال : { إن سعيكم لشتى ( 4 ) } [ الليل : 4 ] . قال مالك : فليس السعي الذي ذكر الله عز وجل في كتابه بالسعي على الأقدام ولا الاشتداد ، وإنما عنى العمل والفعل {[10718]} . وهذا السؤال من مالك إنما كان لأن لفظ السعي في كلام العرب يحتمل الجري كقوله عليه الصلاة والسلام : " فلا تأتوها وأنتم تسعون " {[10719]} ويحتمل المشي من غير جري كالآية التي احتج بها مالك . وأجابه ابن شهاب بقراءة عمر بن الخطاب وإن لم تكن ثابتة في المصحف ، تجري عند قوم من الأصوليين مجرى خبر الآحاد سواء أسندت أم لا . وذهبت طائفة إلى أنها لا تجري مجرى خبر الواحد إلا إذا أسندت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فإذا لم تسند فهي بمنزلة قول القارئ لها . والذي ذهب إليه القاضي أبو بكر {[10720]} أنه لا تجوز القراءة بها ولا العمل بمضمونها سواء أسندت أم لا . قال الباجي وهو الأبين عندي والوجه في احتجاج ابن شهاب بقراءة عمر أن ذلك على جهة التفسير من عمر وهو من أهل اللسان ، ففسر السعي بأنه المضي ، وقوله في ذلك حجة بلا خلاف بين العلماء {[10721]} .
وهذه الآية قد تضمنت من أحكام الجمعة جملة ، فمن ذلك أنها فريضة لأن الأمر بها في الآية محمول على الوجوب ، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يؤيد ذلك قوله : " الجمعة واجبة على كل مسلم في جماعة إلا أربعة : عبد مملوك أو امرأة أو صبي أو مريض " {[10722]} . وهي عند الجمهور فرض على الأعيان ، وقال قوم فرض على الكفاية ، وذهب إليه بعض الشافعية . ودليل الجمهور قوله تعالى : { إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله } فعم . وقال عليه الصلاة والسلام : " الجمعة على من سمع النداء " {[10723]} وقوله عليه الصلاة والسلام : " من تركها ثلاثا من غير عذر طبع الله على قلبه " {[10724]} . ومن ذلك الأذان لصلاة الجمعة اختلف في وجوبه . الذاهبون إلى أن الأذان ليس بواجب في الجملة ، وهو قول الجمهور خلافا لداود ومن تابعه . فرآه الأكثر مثل الأذان لسائر الصلوات {[10725]} سنة . ورآه بعض الشافعية واجبا بخلاف الأذان لسائر الصلوات ، ومن حجتهم ظاهر الآية لأنه تعالى قد شرط في السعي إليها أن يكون عند الأذان ، والسعي واجب . وهذا ضعيف ، لأن المفهوم من الآية والمراد منها إنما هو إذا حضر وقت هذه الصلاة فاسعوا إليها ، وجعل الأذان الذي هو من سنتها علامة لذلك ، فلا تدل على وجوبه . وقد اختلف في معنى قول مالك في صفة الأذان يوم الجمعة . فروى عنه ابن عبد الحكم ما يدل على أن النداء عنده فيها واحد ، ونحوه عند الشافعي . وجاء في الحديث أن السائب بن يزيد {[10726]} قال : كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر ، فلما كان عثمان – وكثر الناس – زاد النداء الثالث ، وبعضهم يقول الثاني فمن قال الثاني فلا إشكال . ومن قال الثالث ، فبعضهم يقول سمى الإقامة أذانا فكانت أذانا ثانيا للأذان على المنابر ، وما زاده عثمان ثالث . وبعضهم يقول إنه كان بين يديه صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر أذان أيضا ، وذكر ذلك أبو داود في مصنفه ، فهو كان الثاني . وهو الحديث الذي جاء أنه كان بين يديه صلى الله عليه وسلم أذان ضعيف لأنه قال مالك في المجموعة أن هشام بن عبد الملك {[10727]} هو الذي أحدث الأذان بين يديه . فلو كان ذلك في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل إنه محدث . وقد ذكر عن مالك ما يدل أن الأذان للجمعة ليس بواحد لأنه قال : إذا أذن المؤذنون حرم البيع {[10728]} . فذكر المؤذنين بلفظ الجمع . والذي يظهر من لفظ الآية أن ذلك واسع أذن لها واحد أو جماعة لأنه تعالى قال : { إذا نودي للصلاة } وذلك يقع على النداء والنداءين والثلاثة . واختلف في الموضع الذي يلزم منه السعي إلى الجمعة . فقيل ثلاثة أميال وما قاربها ، وهو قول مالك المشهور . وقيل ثلاثة أميال فدون ، وهي رواية أشهب عنه {[10729]} . وهذه الثلاثة الأميال اختلف الذين ذهبوا إليها من أين يكون ابتداؤها {[10730]} إلى أين . فقيل من منزل الساعي إلى موضع المنادي . وقيل من منزل الساعي إلى أول المدينة التي فيها النداء . والقولان في المذهب . وقيل يجب السعي على كل من آواه الليل إلى أهله ، وهو قول الأوزاعي وغيره . وقيل يجب على من كان على ستة أميال ، وهو قول الزهري . وقيل يجب على من كان على أربعة أميال ، وهو قول ربيعة . ويذكر عن الزهري . وقيل ليس على من كان على رأس ميل جمعة ، وهو قول حذيفة . وقيل يلزم السعي في خمسة أميال . وقيل إنه لا يلزم من كان خارج المصر الإتيان إليها قربت مسافته أو بعدت ، وهو قول أبي حنيفة . وقيل تجب الجمعة على من يسمع النداء ، وهو مروي عن مالك والشافعي وغيرهما . وجعل جماعة من الشيوخ هذا القول غير مخالف للقول باعتبار ثلاثة أميال . قالوا لأن تلك المسافة منتهى ما يسمع فيها صوت المؤذن . وكذلك ساق الرواية علي بن زياد ، وساقوا أيضا تفسيرا للمذهب ما رواه ابن أبي أويس {[10731]} عن مالك وابن وهب أيضا . وهو أن الحد إنما هو لمن كان خارج المصر ، وأما من كان في المصر فيتعين عليه الإتيان إلى الجمعة وإن كان بينه وبين المسجد الجامع ستة أميال أو أكثر . قال المهلب {[10732]} : ونص كتاب الله يدل على أن الجمعة تجب على كل من سمع النداء وإن كان خارج المصر . وهو أصح الأقوال . قال ابن القصار : واعتذر الكوفيون لقولهم إن الجمعة لا تجب على من كان خارج المصر فقالوا : لأن الأذان إعلام لمن يحضر ، والأذان بعد دخول الوقت . ومعلوم أنه من سمعه على أميال باكر في السعي لا يلحق فيقال لهم معنى قوله تعالى : { إذا نودي للصلاة } : إذا قرب وقت النداء للصلاة بمقدار ما يدركها كل ساع إليها ، فاسعوا إليها . وليس على أنه لا يجب السعي لها حتى ينادي إليها . والعرب قد تضع البلوغ بمعنى المقاربة كقولهم : إن ابن أم مكتوم كان لا ينادي حتى يقال له أصبحت أصبحت ، أي قاربت الصباح . ومثله : { فإذا بلغن أجلهن } [ البقرة : 234 ، الطلاق : 2 ] يريد إذا قاربن البلوغ . واختلف متى يتعين الإقبال للصلاة ، وهذا الخلاف إنما هو فيمن كان بموضع لا تفوته الجمعة منه إذا سعى إليها مع الأذان . فقيل إذا زالت الشمس ، وقيل إذا أذن المؤذن ، وهو ظاهر لفظ الآية . واختلف في عدد من تجب عليهم الجمعة . فروي عن أبي هريرة مائتان ، وعن عمر بن عبد العزيز خمسون وعن الشافعي أربعون . وروي عن أبي هريرة وعن مالك في رواية مطرف وابن الماجشون ثلاثون بيتا وروي بذلك حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم {[10733]} . وعن ربيعة اثني عشر رجلا عدد الذين بقوا مع النبي صلى الله عليه وسلم حين انفضوا إلى العير . وعن عكرمة سبعة أنفس ، وعن أبي حنيفة الإمام وثلاثة أنفس معه وهو قول الأوزاعي والمزني {[10734]} وأبي ثور . وعن أبي يوسف والثوري : الإمام ونفسان معه . وعن الحسن بن أبي صالح {[10735]} : الإمام وآخر معه . والمشهور عن مالك أنه لم يحدد عددا إلا أنه قال : أهل القرية المتصلة البنيان التي فيها الأسواق يجمع أهلها . ومرة لم يذكر الأسواق . قال ابن القصار : ليس أحد هذه الأقوال أولى من صاحبه فيجب الرجوع إلى صفة من خوطب في الآية وأمروا بالسعي إليها وهم قوم لهم بيع وشراء . فيجب طلب قوم هذه صفتهم وليسوا إلا من كان لهم مسجد وسوق ويطلق عليهم اسم جماعة . فالجمعة واجبة عليهم كانوا خمسة أو عشرة أو أربعين ، وهذا هو مثل قول مالك رحمه الله تعالى فهو أسعد بالآية من سائر المخالفين له . وأيضا فإنه تعالى قال : { فاسعوا إلى ذكر الله } ولم يشترط عددا . ولا يصح عند أهل النقل ما احتج به الشافعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة جمع بأربعين رجلا . واختلف هل تجب الجمعة فيما عدا الأمصار على قولين . الأشهر منهما أنها تجب في غير المصر إذا كان ثم جماعة كما تقدم . والدليل على ذلك عموم الآية إذ لم يخص مصرا من غيره . وقوله عليه الصلاة والسلام : " الجمعة في كل قرية وإن لم يكن فيها إلا أربعة " {[10736]} والمقصود من هذا ضرب المثل وأن صغرها لا يمنع من إقامة الجمعة . وأجمعوا على أن المرأة والصبي لا جمعة عليهما لقوله عليه الصلاة والسلام : " لا تجب الجمعة على أربعة " {[10737]} فذكر المسافر والعبد والمرأة والصبي وذكر المريض . واختلف في المسافر والعبد ، فالمشهور أنه لا تجب عليهما الجمعة أيضا للحادث المتقدم وأنهما مخصصان من عموم الآية كالمرأة والصبي . وذهب داود ومن تابعه إلى أنهما باقيان تحت عموم الآية وأن الجمعة واجبة عليهما . وذهب الحسن وقتادة إلى أن العبد باق في عمومها وأن الجمعة تجب عليه لذلك وأن المسافر بخلافه . واختلف في التخلف عن الجمعة بسبب المطر ، فأجيز ومنع . فمن منع فلظاهر الآية إذ لم يخصص وقت مطر من غيره وهو المعلوم من قول مالك . وكذلك اختلفوا في تخلف العروس عنها . فمن منع فلظاهر الآية كما قدمنا إذ لم يخصص . وأجازوا التخلف عنها لمرض أو شغل بجنازة وللأعمى . وخصصوا هؤلاء من عموم الآية . واختلف في الوالي هل هو من شرط صحة الجمعة أم لا على قولين في المذهب . والدليل على أنه ليس بشرط قوله تعالى : { إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله } ولم يشترط إذن السلطان . واختلف إذا اجتمع عيد وجمعة هل يسقط أحدهما الآخر أم لا ؟ ففي المذهب أنه لا يسقط . وفي الواضحة عن مالك في ذلك لمن كان على مثل الموالي من المدينة روايتان . وقال أحمد بن حنبل حضور العيد يكفي عن الجمعة . والحجة لما في المذهب قوله تعالى : { إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله } فعم . وقد اختلف هل يصح أن تقام الجمعة في غير المسجد الجامع أم لا على قولين بين المتأخرين ، الأظهر منهما أنها تصح ويؤيد ذلك عموم الآية . وقوله تعالى : { فاسعوا إلى ذكر الله } : السعي في لسان العرب يصلح للسير السريع والسير الرويد وقد بان بقوله عليه الصلاة والسلام : " إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون وأتوها وعليكم السكينة " {[10738]} أن المراد بقوله تعالى : { فاسعوا إلى ذكر الله } غير الجري . وكذلك قال الحسن في تأويلها ، وإلى هذا ذهب مالك وأكثر العلماء . وكان عمر وابن مسعود يقرآن : { فامضوا إلى ذكر الله } . وقال ابن مسعود : لو قرأتها : فاسعوا ، لسعيت حتى يسقط ردائي . وقد اختلف أهل العلم في الإسراع إلى الصلاة إذا خيف أن تفوت . فأجازه قوم وكرهه قوم . وروي عن مالك إجازته ، وهو قول ابن مسعود . وقوله هذا ينحو إلى قوله المتقدم في معنى قوله : { فاسعوا إلى ذكر الله } .
– قوله تعالى : { وذروا البيع } :
أمر تعالى بترك البيع في يوم الجمعة إذا أخذ المؤذن في الأذان ، واختلف في هذا الأمر هل هو أمر وجوب أو أمر ندب . فذكر مكي عن قوم أن البيع جائز في ذلك الوقت وأن الآية على الندب لا على الإلزام واستدلوا بقوله تعالى : { ذلكم خير لكم } . والجمهور على أنه أمر إيجاب وأن البيع في ذلك الوقت حرام إلا أنهم اختلفوا في البيع إذا وقع . فقيل يفسخ ما لم يفت ، فإن فات مضي بالثمن {[10739]} . وقيل يفسخ ما لم يفت فإن فات مضي بالقيمة{[10740]} . وقيل لا يفسخ البيع إذا وقع وإن كانت السلعة قائمة . وقد باء المتبايعان بالإثم . والثلاثة الأقوال في المذهب . والأشهر في ذلك أنه بيع فاسد يفسخ ما لم يفت لقوله تعالى : { وذروا البيع } وهذا أمر في معنى النهي يدل عند الأصوليين على فساد المنهي عنه ولأنه عقد منع منه لأجل حق الله تعالى فأشبه النكاح في العدة ، والنكاح كالبيع قياسا . وأما الهبات والصدقات ففيها نظر وقد قال عبد الوهاب يمكن أن يجري مجرى البيع . واختلف في تبايع من لا تلزمه الجمعة من النساء والعبيد في ذلك الوقت ، فأجيز ذكره . وإليه ذهب الليث . والأظهر إجازته لأن الأمر بترك البيع في الآية إنما هو للمدعوين إلى الصلاة ومن لا تلزمهم الجمعة لم يدعوا قط إلى الجمعة فلم يدخلوا في الأمر بترك البيع ووجب أن تجوز مبايعتهم . وكذلك اختلف في مبايعة من تلزمه الجمعة مع من لا تلزمه الجمعة . ومذهب مالك رحمه الله تعالى أنه لا يجوز لأن عموم الآية يشتمله .