– قوله تعالى : { أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم } :
ذهب بعضهم إلى أنه أمر عام بالسكنى لجميع المطلقات . وذهب بعضهم إلى أنها في إسكان البوائن خاصة . ويأتي على مذهب {[10797]} من لا يرى للمبتوتة سكنى أنها في غير البوائن . والقول بأنها في البوائن خاصة أحسن لقوله تعالى بعد هذا : { وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن } فلم يوجب لهن نفقة إلا مع الحمل ، وهذا لا يتصور في غير البائن لأن الإجماع منعقد على أن لها النفقة كانت حاملا أو غير حامل . فإن قيل : وكيف ذلك ولم يتقدم لهن في السورة ذكر وإنما تقدم ذكر اللواتي لم يبن بدليل قوله تعالى : { لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا } ؟ ففي ذلك جوابان :
أحدهما : وإن لم يتقدم لهن في السورة ذكر فقد تقدم لهن في سورة البقرة وهو قوله عز وجل : { فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره } [ البقرة : 230 ] فيعاد قوله : { أسكنوهن } على تلك الحالة لأن القرآن كله كسورة واحدة في رد بعضه إلى بعض ، وتفسير بعضه ببعض .
والثاني : أن تقول إنه قد تقدم لهن في السورة ذكر لأن قوله تعالى : { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن } عام فيمن لم تتطلق وفيمن طلقت طلقتين وبقيت فيها طلقة لأنها تبين بالطلقة الواحدة للسنة . فرجع قوله : { أسكنوهن } الآية إليها دون من سواها ممن عمه عموم اللفظ . وعلى القول بأن المأمور بإسكانهن البوائن يكون قوله : { وإن كن أولات حمل } في البوائن أيضا فيكون قد أوجب لهن السكنى ولم يوجب لهن نفقة إذا لم تكن حوامل ثم أوجب لهن النفقة إذا كن حامل . ويؤيد هذا حديث فاطمة بنت قيس {[10798]} ، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ليس لك عليه نفقة " {[10799]} وقد كان طلقها ثلاثا . فيأتي على هذا أن البائنة لها السكنى ولا نفقة لها ، وهو قول مالك رحمه الله تعالى وجميع أصحابه . وفي المسألة قولان سوى ذلك : أحدهما : أن لها النفقة والسكنى {[10800]} . والثاني : أنه لا نفقة لها ولا سكنى{[10801]} . واستدل من ذهب إلى أنها لا نفقة لها ولا سكنى بما جاء في بعض روايات حديث فاطمة وهي أنها قالت : لم يجعل لي رسول الله صلى الله عليه وسلم نفقة ولا سكنى . ولا حجة في هذا بأنها إنما قالت ذلك تأولا على قول النبي صلى الله عليه وسلم إذ أمرها أن تعتد في بيت أم مكتوم . وإخراجها إلى الموضع الذي كانت فيه لاستطالتها بلسانها على أحمائها . فقد أوجب لها النبي صلى الله عليه وسلم السكنى وجعله حقا عليها لله تعالى من حيث لم تشعر . ولو لم يوجبه عليها لما أمرها به في موضع ما ولقال لها : اعتدي حيث شئت فلا سكنى لك . واستدل من ذهب أن لها السكنى والنفقة بما روي أن عمر بن الخطاب قال : لا ندع آية من كتاب الله ربنا وسنة نبينا لقول امرأة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول لها : السكنى والنفقة وتأول – والله تعالى أعلم – قول النبي صلى الله عليه وسلم لها لا نفقة لك ، تأديبا من أجل أنها سخطت ما أرسل إليها به إذ رأى أنه هو الواجب لها عليه لقول الله عز وجل : { ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها } وتأول أيضا أن النفقة التي أمر الله تعالى بها للحوامل في قوله : { وإن كن أولات حمل . . . } الآية ليست لأجل الحمل وإنما هي من أجل العدة إذ لو كان من أجل الحمل لوجب له الرجوع بها عليه إذا ولد حيا ، وقد مات أخ لأمه فورثه كما أنفق عليه في حياته ثم انكشف أن له مالا . واختلف الذين أوجبوا لها السكنى في الذي يجب عليها فيه . فقيل إنه حق لها فإن شاءت أخذته وإن شاءت تركته . وقيل إنه حق لله تعالى فيلزمها أن لا تبيت إلا فيه ولها أن تخرج في نهارها فتتصرف في حوائجها ، وهو قول مالك وجميع أصحابه . وقيل إنه ليس لها أن تبيت عنه ولا أن تخرج منه نهارا . وهذا إنما يأتي على قول من رأى أن النفقة لها . والأظهر أنه حق له لأن ظاهر أمره تعالى بذلك إنما هو على أن الحق له فيه حتى يقيده بما يدل على غير ذلك ، وليس في الآية تقييد . واختلف هل لهذه المطلقة أن تحج ؟ فذهب الشافعي وأبو حنيفة إلى أنه {[10802]} ليس لها ذلك . وذهب ابن حنبل وغيره إلى أن لها أن تحج في العدة . وقال مالك رحمه الله تعالى : ترد ما لم تحرم . وأما الحامل المطلقة ، فإن كان الطلاق رجعيا فحكمها حكم المطلقة الرجعية ، وإن كان طلاقها بائنا فحكمها حكم البائن غير الحامل في وجوب السكنى لقوله تعالى : { أسكنوهن } ولها النفقة بنص قوله تعالى : { وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن } ولا خلاف في ذلك وإنما اختلف في نفقة الحامل المتوفى عنها زوجها ففي ذلك قولان : أحدهما : المنع من ذلك . والآخر : إيجابه تعلقا بعموم الآية . والقول بالمنع أجرى على طريق النظر والأثر . وقد استدل بعضهم من قوله تعالى : { أسكنوهن } الآية على القول بأن المرأة إذا كانت ساكنة في دارها ومعها زوجها ثم طلبته بالكراء أن ذلك يلزمه ، خلافا للقول بأنه لا يلزمه كراء . والقولان معلومان في المذهب وذكر الاستدلال بذلك صاحب الوثائق المجموعة . واختلف هل يجوز عقد النكاح على حامل من زنا . فلم يجزه مالك وأجازه الشافعي وأبو حنيفة . وحجة مالك قوله تعالى : { وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } . واختلف في المبتوتة في المرض {[10803]} ، ففي المذهب أنها تعتد عدة المطلقة مات زوجها أو بقي . وقال أبو حنيفة : أقصى الأجلين . والحجة عليه قوله تعالى : { وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } {[10804]} .
قوله تعالى : { فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن } إلى قوله تعالى : { سيجعل الله بعد عسر يسرا } :
يقول إن أرضع هؤلاء الزوجات المطلقات ولذلك فآتوهن أجورهن أي جميع ما يعان به الصبي وذلك نفقته وكسوته والأجرة على إرضاعه باتفاق .
واختلف في كراء سكناه ، فمنهم من رأى على الأب ذلك ومنهم من لم يره . وظاهر الآية على إيجابه على الأب .
قوله تعالى : { وأتمروا بينكم بمعروف وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى } :
أي إن تشططت الأم على الأب في أجرة الرضاع فللزوج أن يسترضع لولده غيرها بما فيه رفقة . وقد اختلف قول مالك إذا وجد الأب من يرضعه باطلا أو بدون ما يساوي رضاعه . فعنه أن من حق الأم أن ترضعه بأجر مثلها . وروى ابن وهب عنه أن الأم لم ترد أن ترضعه مجانا أو بما وجد كان له أن يدفعه إلى من ترضعه له مجانا أو بما وجد {[10805]} . ومعنى ذلك إذا أرضعته عند أمه ولم تخرجه من حضانتها . وهذا القول أشبه بظاهر قوله تعالى : { وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى } . وقد استدل بعضهم بقوله تعالى : { فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن } على أنها إذا رضيت أن ترضع بأجر مثلها لم يكن للأب أن يسترضع غيرها بدون الأجر ويلزم على هذا أن يتأول قوله تعالى : { وإن تعاسرتم } على أن الأم تطلق أكثر من أجر مثلها . وتدل هذه الآية أيضا على أن الأم أولى بحضانة الولد . وتدل أيضا على أن الأجرة إنما تستحق بالفراغ من العمل وإن احتمل أن يراد به غير ذلك .