قوله تعالى : { وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون ( 204 ) واذكر ربك في نفسك } إلى قوله تعالى : { ولا تكن من الغافلين } :
اختلف في سبب نزول هذه الآية . فقيل إنها نزلت بسبب فتى من الأنصار كان يقرأ في الصلاة والنبي عليه الصلاة والسلام يقرأ فأمروا بترك القراءة معه في الصلاة . وقيل إنها نزلت في الخطبة فأمروا بالإنصات لها{[8483]} ويضعف هذا القول لأن {[8484]} الآية مكية والخطبة لم تكن إلا بالمدينة . وبمثل هذا الوجه أيضا يضعف القول الأول . وقيل إنها نزلت من أجل أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يتكلمون في المكتوبة بحوائجهم {[8485]} ويضجون {[8486]} عند آية الرحمة والعذاب ويجيب أحدهم إذا سئل ونحو هذا . فنزلت الآية أمرا بالاستماع والإنصات في الصلاة . وقيل {[8487]} كان أناس {[8488]} يكثرون اللغط والشغب {[8489]} عند قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويمنعون غيرهم من سماعها تعنيتا وعنادا على ما حكى الله تعالى عن {[8490]} الكفار : { وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون } [ فصلت : 26 ] .
فأمر الله تعالى المسلمين بأن يكونوا عند نزول الوحي بخلاف هذه الحالة وأن يستمعوا{[8491]} ومدح الله تعالى الجن على ذلك فقال : { وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا } الآية [ الأحقاف : 29 ] . وهذه الآية وإن كانت وردت على سبب مخصوص ففيها نظر هل {[8492]} يقتصر {[8493]} على سببها أو يحمل {[8494]} على كل ما يقتضيه لفظها إلا ما دل دليل على تخصيصه . وإلى تعميمها ذهب كثير من العلماء فاحتجوا بها في مسائل متفرقة منها ترك الكلام في الصلاة {[8495]} وقد استدل بها بعضهم على وجوبه ، وقد تقدم الخلاف فيه هل هو فرض أم سنة عند قوله تعالى : { وقوموا لله قانتين } [ البقرة : 238 ] وبينا المذاهب فيه فلا معنى لإعادة {[8496]} الكلام عليه {[8497]} وقد اختلف في القراءة هل هي واجبة في الصلاة أم لا . فذهب قوم إلى أن القراءة ليست بواجبة منهم ربيعة والحسن وعبد العزيز بن أبي سلمة {[8498]} واحتجوا بما روي عن علي بن أبي طالب من أنه لا إعادة على من ترك القراءة في الصلاة إذا كان الركوع والسجود حسنا . وعن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه من أنه صلى بالناس المغرب فلم يقرأ فيها فلما انصرف قيل له : ما قرأت . قال : وكيف {[8499]} الركوع والسجود ؟ قالوا : حسن . قال : فلا إذا . وقد أنكر مالك رضي الله عنه ذلك عن عمر {[8500]} . وروي أنه أعاد . وذهب الجمهور إلى أن القراءة في الصلاة واجبة واحتجوا بقوله تعالى : { وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا } قالوا {[8501]} لأن معناه في الصلاة . وأما الإنصات في الخطبة فاختلف فيه . فعندنا أنه واجب وذهب الشافعي في أحد قوليه إلى أنه ليس بواجب .
وذكر ابن المنذر{[8502]} عن جماعة من التابعين أنهم كانوا يتكلمون والإمام يخطب . وذهب الطبري إلى أنه واجب إلا في خطبة العيدين . واحتج من ذهب إلى القول الأول بقوله تعال : { وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا } ، وبما جاء من أنها نزلت في الخطبة . وعلى هذا تأول الآية سعيد بن جبير فقال فيها : الإنصات يوم الأضحى ويوم الفطر ويوم الجعة وفيما {[8503]} يجهر به الإمام في الصلاة {[8504]} . ومما{[8505]} يعضد هذا التأويل في الآية قوله عليه الصلاة والسلام : " إذا قلت لصاحبك أنصت والإمام يخطب فقد لغوت " {[8506]} . وأما القراءة مع الإمام في الصلاة فاختلف فيها على أقوال : فذهب قوم إلى أنه لا يقرأ المأموم جملة أسر الإمام أو جهر وأنه يعصي بالقراءة وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال : من قرأ خلف الإمام فقد أخطأ الفطرة {[8507]} وعن زيد بن ثابت {[8508]} أنه قال من قرأ خلف الإمام فلا صلاة له وهو قول أبي حنيفة في ترك القراءة {[8509]} . وذهب الشافعي في أحد قوليه إلى أنه تلزمه القراءة أسر الإمام أو جهر فيقرأ معه في الإسرار بأم القرآن والسورة {[8510]} ، وفي الجهر {[8511]} بأم القرآن خاصة لقوله عليه الصلاة والسلام : " لا صلاة لمن لم يقرأ فاتحة الكتاب " {[8512]} . وذهب مالك ومن تابعه إلى أنه لا يقرأ مع الإمام في الجهر بوجه . قال بعضهم ولو قرأ ما أثمناه . ويقرأ في السر على جهة {[8513]} الاستحباب . وروي عن الشافعي مثله . وعند ابن وهب وأصبغ {[8514]} أن القراءة معه في السر غير مستحبة وهو قول ثالث{[8515]} للشافعي .
وقيل إن المأموم يقرأ بفاتحة الكتاب {[8516]} خاصة أسر الإمام أو جهر وقيل يقرأ معه في الجهر والسر إلا أنه لا يجهر مثله {[8517]} بالقراءة . وقد {[8518]} ذهب بعضهم إلى أن المأموم يتحرى وقت سكوت الإمام فيقرأ . وكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم سكتتان {[8519]} في صلاته : سكتة بعد التكبير وسكتة بعد قراءة الفاتحة ، وهذا قول بعض {[8520]} من يذهب إلى الجمع بين الآية والحديث والذي يحتج به من يرى سقوط فرض القراءة على المأموم وهو مذهبنا ومذهب أبي حنيفة هذه الآية : { وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا } قالوا{[8521]} فوجب الاستماع والإنصات إلا ما استثني من ذلك . وقد نصر بعض أهل العلم الحجة بظاهر هذه الآية واعتقد بعضهم أنها نص في الفرض قالوا ولا سبيل إلى ترك النص بأخبار الآحاد الدالة على القراءة . وضعف ذلك بعضهم ولم ير للآية تعلقا بشيء من ذلك وحملها على الإنصات والاستماع لما نزل من الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم حسب القول الذي قدمناه في ذلك ورأوا {[8522]} أن المأموم يقرأ إلا أنه يندب له {[8523]} أن{[8524]} لا يجهر بالقراءة خلف الإمام إذا جهر حتى لا يشغل عليه القراءة . والذين رأوا الآية حجة عارضوا بينها وبين قوله عليه الصلاة والسلام : " لا صلاة لمن لا يقرأ بفاتحة الكتاب " وبغير ذلك من الأحاديث الواردة من قراءة المأموم . وبحسب ذلك اضطربت أقوالهم إلا أنه يعترض على من يقول لا يقرأ المأموم في صلاة السر بأن {[8525]} المأموم إذا لم يسمع ما يقرأه الإمام لأجل إسراره فمن أين يلزمه الاستماع والإنصات وإنما يجب الامتناع إذا وجب الاستماع . وقد أجاب عن ذلك بعضهم أن قال : الأصل في القراءة في الصلاة الجهر ليتدبر المستمع في آيات القرآن ويتعظ بها . وإنما السر {[8526]} لعارض وهو أن المنافقين كانوا يلغطون في قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويكثرون القول ليلبسوا {[8527]} عليه وعلى من خلفه .
وقد أخبر {[8528]} الله تعالى بذلك حيث قال : { وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون } [ فصلت : 26 ] . وإن كان الأصل في {[8529]} الجهر للتدبر {[8530]} والاتعاظ فلا بعد في زوال العلة وبقاء الحكم . وهذا الجواب ليس بشيء فإنه لو كان كذلك لما أسر في بعض الصلوات وجهر في بعضها {[8531]} فإن قيل كان الكفار ينتشرون في صلاة {[8532]} النهار فلذلك أسر فيها ، قيل يبطل هذا بصلاة الجمعة وصلاة العيدين . ثم إن صلاة الليل منها ما يسر فيها على ما لا خفاء فيه {[8533]} ، فبان بهذا أن الجهر والإسرار سنة لا للعلة التي ذكروها وقد قال قوم {[8534]} إن معنى الإنصات المأمور به في الآية أن لا يجهر بالقراءة منازعا الإمام وإذا أخفى ذلك لم يخرج عن الإنصات . وقيل بل المراد به السكوت حتى لا يقرأ البتة إلا عند فراغ الإمام {[8535]} .
– قوله تعالى : { فاستمعوا له وأنصتوا } :
محمل هذه الآية {[8536]} عند الأكثر على ظاهر اللفظ ولذلك يحتج به العلماء في المسائل المتقدمة ونحوها . وقال الزجاج : يجوز أن يكون فاستمعوا وأنصتوا بمعنى اعملوا بما فيه ولا تجاوزوه {[8537]} . وإذا كان على ما قاله الزجاج فلا حجة فيه لشيء من المسائل المتقدمة والأظهر حمل اللفظ على حقيقته {[8538]} .