قوله تعالى : { ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين } إلى قوله : { فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه } :
اختلف في الاستغفار ما المراد به في قوله تعالى : { أن يستغفروا للمشركين } فقيل الصلاة ، وهو قول عطاء . وقيل هو الدعاء بالمغفرة وهو قول الجمهور . والذين ذهبوا إلى هذا اتفقوا أن من ليس من إيمانه من الكفر كمن مات منهم ، ومن نصر الله تعالى عليه من إحيائهم بأنه لا يؤمن كأبي لهب داخل تحت هذه الآية فلا يجوز الاستغفار له . واختلف في الحي من الكفار لا يقطع بأنه لا يؤمن هل هو داخل تحت عموم الآية فلا يجوز الاستغفار له أو ليس بداخل تحت العموم فيجوز الاستغفار له على قولين {[9271]} . واختلف في سبب الآية . فقيل نزلت في قصة أبي طالب {[9272]} حين احتضر دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم فوعظه وقال : " يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها يوم القيامة " ، وبالحضرة أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية {[9273]} . فقالا له : يا أبا طالب : أترغب عن ملة عبد المطلب . فقال أبو طالب والله يا محمد ، والله لولا أني أخاف أن يعير بها ولدي من بعدي لأقررت بها عينك . ثم قال : أنا على ملة عبد المطلب . ومات على ذلك إذ لم يسمع النبي صلى الله عليه وسم ما قال العباس {[9274]} فنزلت : { إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء } [ القصص : 56 ] فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لأستغفرن لك ما لم أنه عنك " . فكان يستغفر له حتى نزلت هذه الآية فترك الاستغفار له {[9275]} . وروي أن المؤمنين لما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر لأبي طالب جعلوا يستغفرون لموتاهن {[9276]} فلذلك دخلوا في التأنيث والنهي . وقيل نزلت الآية بسبب قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنافقين : " لأزيدن على السبعين " ، وعلى هذين القولين في السبب يترتب القولان في الذي نسخته هذه الآية ، وذلك أنه قيل إنها ناسخة لفعل النبي صلى الله عليه وسلم في الاستغفار لأبي طالب . وقيل بل هي ناسخة لقوله عليه الصلاة والسلام : " لأزيدن على السبعين " {[9277]} ومن يرى الاستغفار لأحياء المشركين الذين لم يؤس منهم يقول بالأول ، ومن لا يرى ذلك يقول بالقول الثاني . وقيل نزلت بسبب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة أتى قبر أمه آمنة فوقف عليها حتى استحرت عليه الشمس وجعل يرغب في أن يؤذن له في الاستغفار ، فنزلت الآية ولم يؤذن له . وأخبر أصحابه أنه أذن له في زيارة قبرها ومنع أن يستغفر لها ، فما رؤي باكيا أكثر من يومئذ . وقيل نزلت الآية بسبب جماعة من المؤمنين قالوا استغفر لموتانا كما استغفر إبراهيم لأبيه ، فنزلت الآية {[9278]} . وعلى هذين القولين في السبب يترتب القول في الآية أنها ليست بناسخة .
وقوله تعالى : { من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم } :
دليل قوي لمن يجيز الاستغفار لأحياء المشركين الذين لم يؤس من إيمانهم ، ومن هذا قول أبي هريرة رحم الله رجلا استغفر لأبي هريرة وأمه ، قيل له ولأبيه ، قال لأن أبي مات كافرا .
قوله تعالى : { وما كان استغفار إبراهيم لأبيه } :
المعنى ليس في استغفار إبراهيم لأبيه حجة أيها المؤمنون لأن استغفاره له إنما كان عن موعدة . واختلف هل كان هذا بعد أو لم يكن . وإنما يكون يوم القيامة ، وقال سعيد بن جبير ذلك كله يوم القيامة وذلك أن إبراهيم يلقاه فيعرفه يتذكر قوله : { سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا } [ مريم : 47 ] فيقول له ألزم حقوي ولن أدعك اليوم لشيء فيلزمه حتى يأتي الصراط فيلتفت إليه فإذا هو قد مسخ ضبعانا أمردا فيتبرأ منه حينئذ {[9279]} وهذا قول ضعيف . وذهب الجمهور إلى خلاف هذا وأنه قد كان هذا كله فيما مضى . واختلفوا في هذه الموعدة ما هي ، فقيل هي موعدة من إبراهيم عليه السلام لأبيه بأن يستغفر له وذلك لقوله تعالى : { سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا } [ مريم : 47 ] وقيل هي موعدة من إبراهيم لإبراهيم بأنه سيؤمن فكان إبراهيم قد قوي طمعه في إيمانه فحمله ذلك على الاستغفار له حتى نهي عنه بما تبين له منه . واختلف في تبينه بأنه عدو لله بما كان ، فقيل ذلك بموت آزر على الكفر ، وقيل ذلك بأنه نهي عنه وهو حي {[9280]} .