قوله تعالى : { انفروا خفافا وثقالا } الآية :
هذا أمر من الله تعالى بالنفير في الغزو . وقد اختلف في هذه الآية هل هي منسوخة أم لا ؟ فقال بعضهم : هذا أمر عام لجميع الناس تعين به الفرض على الأعيان ثم نسخ بقوله عز وجل وعلا : { وما كان المؤمنون لينفروا كافة } روي ذلك عن حسن وعكرمة . وقال أكثر العلماء بل هذا خاص ورد بلفظ عام والأمر في نفسه موقوف على فرض الكفاية ولم يقصد بالآية فرضه على الأعيان . وقال بعضهم هو عام لجميع الناس ولا نسخ فيه والمراد به وجوب النفور إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دعا إلى الجهاد وأمر به ، وهو الأصح . وقال بعضهم هو أمر عام لا نسخ فيه ، والمراد نفير الكل عند الحاجة وظهور الكفر {[9056]} . وظاهر الآية يدل أن ذلك على جهة الاستدعاء وفي هذا نظر . إذ يقال كيف يوجب الاستدعاء شيئا لم يجب قبل الاستدعاء ؟ وقد يجاب عن هذا بأن الإمام إذا عين قوما وخرجهم إلى الجهاد كان النفير فرضا عليهم لا لمكان {[9057]} الجهاد لكن طاعة للإمام . وإذا كان في أهل الثغور كفاية فقد قال قوم من أهل العلم أنه يجب على الإمام أن يغزو في الجهات الأربع في كل سنة قوما يظهر بهم النكاية في العدو {[9058]} وإذا حصلت الكفاية بقوم سقط الفرض عن الباقين .
وقوله تعالى : { خفافا وثقالا } : الخفة والثقل مستعاران لمن يسهل عليه الجهاد ومن يصعب عليه وهو له ممكن . وأما من لا يمكنه فهو عن الآية خارج كالأعمى ونحوه . وقد روي أن ابن أم مكتوم {[9059]} جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له أعلي أن أنفر ؟ فقال له نعم ، حتى نزلت : { ليس على الأعمى حرج } [ النور : 61 ، الفتح : 17 ] وهذا يدل من فعله عليه الصلاة والسلام على حمل العموم على ظاهره حتى يدل دليل على التخصيص . وهي مسألة نزاع بين العلماء وقد اختلف الناس في تفسير الخفة والثقل بعد أن خصصوها بأشياء ، وحقيقة القول فيه ما قدمنا من حمله على العموم . فقيل الخفيف الغني والثقيل الفقير {[9060]} وقيل الخفيف الشاب والثقيل الشيخ {[9061]} وقيل الخفيف النشيط والثقيل الكسلان {[9062]} وقيل المشغول هو الثقيل ومن لا شغل له هو الخفيف {[9063]} وقيل الذي له ضيعة ثقيل ومن لا ضيعة له خفيف {[9064]} وقيل الشجاع هو الخفيف والجبان هو الثقيل {[9065]} وقد قيل بعكس ذلك . وقيل الراجل هو الثقيل والفارس هو الخفيف {[9066]} وقد قيل بعكس ذلك . وهذه الأقوال إنما يصلح أن يؤتى بها على جهة المثال . وقد قال أبو طلحة {[9067]} : " ما أسمع الله عذر أحدا وخرج إلى الشام فجاهد حتى مات " {[9068]} وقال أبو أيوب {[9069]} : " ما أجدني أبدا إلا خفيفا أو ثقيلا " وروي أن بعض الناس رأى في غزوات {[9070]} الشام رجلا قد سقط حاجباه على عينيه من الكبر ، فقال له يا عم : إن الله تعالى قد عذرك . فقال يا ابن أخي إنما قد أمرنا بالنفير خفافا وثقالا {[9071]} وعن المقداد بن الأسود {[9072]} أنه رأى بحمص على تابوت صراف وقد فضل على التابوت من سمنه وهو يتجهز للغزو . فقال له لقد عذرك الله فقال أتت علينا سورة البعوث : { انفروا خفافا وثقالا } {[9073]} .