قوله تعالى : { عفا الله عنك لم أذنت لهم } إلى قوله : { يترددون } :
نزلت هذه الآية بسبب قوم من المنافقين استأذنوا دون عذر ، منهم عبد الله بن أبي ورفاعة بن التابوت والجد بن قيس{[9074]} ومن تبعهم . فمنهم من قال : ائذن لي ولا تفتني . ومنهم من قال : ائذن لي في الإقامة . فأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم استبقاء وأخذا بالمساهلة وتوكلا على الله تعالى . وقال مجاهد إن بعضهم قال : نستأذنه فإن أذن في القعود قعدنا وإن لم يأذن قعدنا . وهذا الإذن مما صنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم برأيه واجتهاده . واختلف هل في الآية عتاب له على ذلك أم لا ؟ وقال بعضهم عتاب له في الإذن ولذلك قال تعالى : { عفا الله عنك } فيما يلحقه من هذا وقد ذكر العفو ، قبل العتاب إكراما له .
وقال عمرو بن ميمون الأودي {[9075]} إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صدع برأيه في قصتين دون أن يؤمر بشيء فيهما : أحدهما هذه وقصة أسارى بدر فعاتبه الله تعالى فيهما {[9076]}وقال بعضهم ليس في الآية عتاب بل قوله تعالى : { عفا الله عنك } استفتاح كلام كما تقول أصلحك الله وأعزك الله . ولم يكن منه عليه الصلاة والسلام ذنب يعفى عنه فيه لأن أمر الاستنفار وقبول الاعتذار مصروف لاجتهاده {[9077]} وهذا أظهر . لأن هذا إنما هو من أمور الدنيا . ولا خلاف أن له أن يجتهد برأيه في أمور الدنيا كقصة آبار النخل ونحو ذلك . وقد اختلف في هذه الآيات هل هي منسوخة أو محكمة ؟ فذهب جماعة إلى أنها منسوخة بقوله تعالى في سورة النور : { فأذن لمن شئت منهم } {[9078]} الآية [ النور : 62 ] لأن في آية النور إباحة الإذن في الانصراف عن الحرب . وفي الآية التي نحن فيها حظره إلا بعذر بين فنسخ ذلك . وقال نحو هذا ابن عباس وعكرمة والحسن . وهذا القول يقتضي أن آية النور نزلت بعد آية التوبة لأن النسخ لا يكون إلا كذلك . وقد زعم قوم من المفسرين {[9079]} أن هذا غلط وأن آية النور نزلت سنة أربع من الهجرة في غزوة الخندق في استئذان بعض المؤمنين رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم في بعض شأنهم في بيوتهم في بعض الأوقات فأباح الله تعالى له أن يأذن ، فتباينت الآيتان في الوقت والمعنى . فعلى هذا آية النور نزلت قبل آية التوبة ولا يصح النسخ بذلك .
وذهب جماعة إلى أن الآيات محكمة وأنها تعيين للمنافقين حين استأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم في القعود على الجهاد بغير عذر وعذر الله تعالى المؤمنين فقال : { فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم واستغفر لهم الله إن الله غفور رحيم } {[9080]} [ النور : 62 ] وهذا القول أصح من الأول ويعضده الاعتراض الذي ذكرناه على الأول .