التّفسير
ذريعة أُخرى !
بعد ما أشرنا في الآيات السابقة إلى مسألة «التوحيد » و «المعاد » ،تتطرّق هذه الآية إلى واحدة من اعتراضات المشركين المعاندين حول مسألة النبوّة: ( ويقول الذين كفروا لولا أُنزل عليه آية من ربّه ) .
ومن الواضح أنّ إحدى وظائف النّبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إظهار معاجزه لكي يدلّ على صدقه وصلته بالوحي الإلهي ،والذي يبحث عن الحقيقة له الحقّ في المطالبة بالمعجزة أثناء شكّه وتردّده في تصديق الدعوة ،أو تتّضح له دلائل النبوّة عن طريق آخر .
ولكن يجب أن نلتفت إلى هذه النقطة وهي: إنّ أعداء الأنبياء لم يكن لديهم حُسن نيّة أو اتّباع للحقّ عند طلبهم المعجزة ،بل لعنادهم وعدم تسليمهم للأمر الواقع ولذلك كانوا يقترحون بين فترة وأُخرى معاجز عجيبة وغريبة .وهذه ما يسمّى ب «المعجزات الأخلاقية » .
اقتراحهم للمعاجز لم يكن لكشف الحقيقة ،ولهذا لم يستجب الأنبياء لمطالبهم ،وفي الحقيقة كانت هذه الفئة من الكفّار المعاندين يعتقدون أنّ النّبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يدّعي القدرة على إنجاز أي عمل خارق للعادة ،وأيّ واحد منهم يقترح عليه إنجاز عمل ما سوف يُلبّي مطالبه .
ولكن الأنبياء كانوا يقولون لهم الحقيقة وهي أنّ المعاجز بيد الله ،ورسالتنا هداية الناس .
ولذلك نقرأ في تكملة الآية قوله تعالى: ( إنّما أنت منذر ولكلّ قوم هاد ) .
بحثان
هنا يرد سؤالان:
1هل الآية «إنّما أنت منذر ...» جواب للكفّار ؟
كيف يمكن لجملة ( إنّما أنت منذر ولكلّ قوم هاد ) أن تكون جواباً للكفّار عند طلبهم المعجزة ؟
الجواب: بالإضافة إلى ما قلناه سابقاً فإنّ النّبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ليست له القدرة الغيبية المطلقة كي يطلبوا منه الإعجاز ،لأنّ الوظيفة الأُولى له هي إنذار أُولئك الذين يسيرون في طريق الضلال ،والدعوة إلى الصراط المستقيم ،وإذا ما احتاجت هذه الدعوة إلى المعجزة فسوف يأتي بها النّبي ،ولكن لا يأتي بها للمعاندين البعيدين عن هذه المسيرة .
فمعنى الآية: إنّ الكفّار نسوا أنّ هدف الأنبياء الإنذار والدعوة إلى الله ،واعتقدوا أنّ وظيفتهم القيام بالمعاجز .
2ما هو المقصود من جملة ( لكلّ قوم هاد ) ؟
قال بعض المفسّرين: إنّ هاتين الصفتين ( منذر ) و ( هاد ) صفتان للرسول ،فأصل الجملة تكون ( أنت منذر وهاد لكلّ قوم ) .
ولكن هذا التّفسير خلاف الظاهر ،لأنّ الواو في جملة ( ولكلّ قوم هاد )تفصل بين جملة ( إنّما أنت منذر ) ولو كانت كلمة «هاد » قبل «لكلّ قوم » كان المعنى السابق صحيحاً .ولكن الأمر ليس كذلك .
والشيء الآخر هو أنّ هدف الآية بيان أنّ هناك قسمين من الدعوة إلى الله: أحدهما أن يكون عمل الداعي هو الإنذار فقط .والآخر: أن يكون العمل هو الهداية .
وسوف تسألون حتماً: ما هو وجه التفاوت بين ( الإنذار ) و ( الهداية ) ؟نقول في جواب هذا السؤال: إنّ الإنذار للذين أضلّوا الطريق ودعوتهم تكون إلى الصراط المستقيم ،ولكن الهداية والاستقامة للذين آمنوا .
وفي الحقيقة إنّ المنذر مثل العلّة المحدثة ،أمّا الهادي فبمنزلة العلّة الباقية وهذه هي التي تعبّر عنها بالرّسول والإمام ،فالرّسول يقوم بتأسيس الشريعة والإمام يقوم بحفظها وحراستها .( ليس من شكّ أنّ الهداية في آيات أُخرى مطلقة للرسول ،ولكن بقرينة المنذر في هذه الآية نفهم أنّ المقصود من الهادي هو الشخص الحافظ والحامي للشريعة ) .
هناك روايات عديدة تؤكّد ما قلناه سابقاً ،فقد قال الرّسول الأعظم ( صلى الله عليه وآله وسلم ): «أنا المنذر وعلي الهادي » .
ولا بأس أن نشير إلى عدّة من هذه الرّوايات:
1في ذيل هذه الآية من تفسير الفخر الرازي مرفوعاً عن ابن عبّاس قال: وضع رسول الله يده على صدره فقال: «أنا المنذر » ثمّ أومأ إلى منكب علي ( عليه السلام )وقال: ( أنت الهادي بك يهتدي المهتدون من بعدي ) هذه الرّواية ذكرها العلاّمة «ابن كثير » في تفسيره ،والعلاّمة «ابن الصبّاغ المالكي » في الفصول المهمّة ،و «الكنجي » الشافعي في كفاية الطالب و «الطبري » في تفسيره ،و «أبو حيّان الأندلسي » في تفسيره البحر المحيط ،وكذلك «العلاّمة النيسابوري » في تفسيره الكشّاف ،وعدد آخر من المفسّرين .
2نقل «الحمويني » وهو من علماء أهل السنّة المعروفين في كتابه فرائد السمطين عن أبو هريرة قال «إن المراد بالهادي علي ( عليه السلام ) » .
3«مير غياث الدين » مؤلّف كتاب ( حبيب السيّد ) كتب يقول في المجلّد الثّاني صفحة 12: «قد ثبت بطرق متعدّدة أنّه لمّا نزل قوله تعالى: ( إنّما أنت منذر ولكلّ قوم هاد ) قال لعلي: «أنا المنذر وأنت الهادي بك يا علي يهتدي المهتدون من بعدي » .
كما نقل هذا الحديث «الآلوسي » في ( روح المعاني ) و «الشبلنجي » في ( نور الأبصار ) والشيخ «سليمان القندوزي » في ( ينابيع المودّة ) .
وبما أنّ أكثر هذه الرّوايات مسنده إلى ابن عبّاس فإنّه لم يكن الشخص الوحيد الذي روى ذلك ،فأبو هريرة نقل ذلك فيما ذكره الحمويني ،وحتّى علي نفسهطبقاً لما نقله الثعلبيقد قال: «المنذر النّبي والهادي رجل من بني هاشم » يعني نفسه{[1916]} .
لا شكّ أنّ هذه الأحاديث لا تصرّح بالخلافة ،ولكن بالنظر إلى ما تحتويه هذه الكلمة ( الهداية ) من المعنى الواسع ،فإنّها غير منحصرة بعلي ( عليه السلام ) بل تشمل جميع العلماء وأصحاب الرّسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الذين كانوا يقومون بنفس المهمّة ،فإنّه يتّضح لنا تخصيص علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) في هذه الرّوايات بهذا العنوان يدلّ على انّه المصداق البارز له ،وذلك لما يمتاز به من الخصوصيات ،وهذا المطلب لا يكون منفصلا عن خلافة الرّسول ( صلى الله عليه وآله ) حتماً .