التّفسير
رمادٌ اشتدت به الريح:
ضربت هذه الآية مثالا واضحاً وبليغاً لأعمال الكفّار ،وبذلك تكمل بحث الآيات السابقة في مجال عاقبة أمرهم .
يقول تعالى: ( مثل الذين كفروا بربّهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف ) فيتناثر الرماد في الريح العاصف بحيث لا يستطيع أحد جمعه ،كذلك منكرو الحقّ ليست باستطاعتهم أن يجمعوا ما كسبوا ( لا يقدرون ممّا كسبوا على شيء ذلك هو الضلال البعيد ) .
بحوث
1لماذا شبّهت أعمالهم كرماد اشتدت به الريح ؟
الجواب:
1التشبيه بالرماد ( مع إمكان الاستفادة من التراب والغبار في ذلك ) لأنّه عبارة عن بقايا الاحتراق ،والآية توضّح أنّ أعمالهم ظاهرية فقط وليس لها أي محتوى ،فيمكن أن تنمو وردة جميلة في حفنة من التراب ،ولكن لا يمكن أن ينمو في الرماد حتّى العلف الرّديء .
2إن ذرّات الرماد غير متلاصقة ،وحتّى بمساعدة الماء لا يمكن ترابطها فالذرّات تنفصل عن بعضها البعض بسرعة ،وكأنّ ذلك يشير إلى أنّ أعمال الكفّار غير منسجمة ولا موحّدة ،على العكس من أعمال المؤمنين حيث نراها منسجمة وموحّدة ومترابطة وكلّ عمل يكمل العمل الآخر ،فروح التوحيد والوحدة لا تقتصر على توحيد الجماعة المؤمنة في ما بينهم بل تنعكس حتّى في أعمال الفرد المسلم .
3بالرغم من تناثر الرماد في اشتداد الريح ،إلاّ أنّه يؤكّده في يوم عاصف ،لأنّ الرياح إذا كانت محدودة وآنيّة فمن الممكن أن ينتقل الرماد من مكان إلى مكان ليس بالبعيد ،ولكن إذا كان يوم عاصف فمن البديهي أن يتناثر الرماد بشكل واسع ،وتنتشر ذرّاته ولا يمكن لأيّة قدرة جمعها .
4إذا كانت العاصفة تهبّ على التبن وأوراق الشجر وتنتثرها في أماكن بعيدة إلاّ أنّه يمكن تشخيصها ،ولكن ذرّات الرماد من الصغر بحيث لو انتثرت لا يبقى لها أي أثر وكأنّ ليس لها وجود سابق .
5إنّ الرياح وحتّى العواصف لها فوائد جمّة في الطبيعة بغضّ النظر عن آثارها المدمّرة في بعض الأحيان ،وفوائدها هي:
الف:تقوم بنشر بذور النباتات في كلّ مكان من الكرة الأرضيّة ،كالمزارع والفلاح .
ب:تُلقّح الأشجار بنقل حبوب اللقاح من الذكور إلى الإناث .
ج:تقوم بتحريك السحاب من المحيطات إلى الأراضي اليابسة .
د:تحكّ الجبال العالية وتحوّلها إلى تراب ناعم ومفيد .
ه:تنقل الهواء من المناطق القطبية إلى المناطق الاستوائية وبالعكس ،حيث تقوم بدور فعّال في تعديل درجات الحرارة .
و:إنّ حركة الرياح تثير البحار فتجعلها متلاطمة وموّاجة كي يدخل فيها الهواء ،لأنّها إذا ركدت سوف تتعفّن ،وهكذا نجد أنّ كلّ ما في الوجود من الأشجار والكائنات الحيّة قد استفاد من هبوب الرياح كلّ على قدره .
ولكن «الرماد » الخفيف الوزن والتافه وعديم الفائدة والذي لا يمكن لأي موجود أن يعيش فيه ،هذا الرماد المتناثر يتلاشى بسرعة حينما تهبّ الريح عليه ،ويزول حتّى ظاهره غير المفيد .
2لماذا فرغت أعمالهم من المحتوى ؟
يجب أن نرى لماذا كانت أعمال الكفّار غير ذات قيمة وغير ثابتة ؟ولماذا لا يستطيع الكفّار الاستفادة من نتائج أعمالهم ؟
ويتّضح الجواب على هذا السؤال لو درسنا المسألة من ناحية النظرة التوحيديّة للعالم ،لأنّ النيّة والهدف والمنهجية هي التي تعطي للعمل شكله ومضمونه ،فإذا كانت الخطّة والنيّة والغاية سالمة وجديرة بالاهتمام فسوف يكون العمل كذلك ،ولكن لو قمنا بأحسن الأعمال بنيّة غير صادقة وخطّة سقيمة وهدف شيطاني ،فإنّ ذلك العمل يكون ممسوخاً ويفقد محتواه ويزول كليّاً كالرماد إذا اشتدت به الريح !
ولا بأس هنا أن نذكر مثالا حيّاً لذلك ،نشاهد الآن برامجاً تحت عنوان حقوق الإنسان في العالم الغربي ومن قبل القوى المستكبرة ،هذه البرامج نفسها كانت تجري من قبل الأنبياء أيضاً ،ولكن حصيلة الاثنين متفاوتة كما بين الأرض والسّماء .فالقوى الإستكبارية عندما تنادي بحقوق الإنسان فمن المسلّم أنّ أهدافها غير إنسانية وغير أخلاقية ،بل التغطية على جرائمهم واستعمارهم بشكل أكثر ،لذلك وعلى سبيل المثال لو اُعتقل أحد جواسيسهم في مكان ما ،فسوف يملأ عويلهم وصراخهم الدنيا بالدفاع ،عن حقوق الإنسان ،ولكن عندما تلطّخت أيديهم بدماء آلاف الناس في فيتنام ،وارتكبوا الفجائع في الدول الإسلامية ،ونُسيت فيه حقوق الإنسان ،بل إنّهم استغلوا حقوق الإنسان لمساعدة الأنظمة الجائرة والعميلة !
ولكن الأنبياء ( عليهم السلام ) أو أوصياءهم ينادون بحقوق البشر لتحرير الإنسان من القيود والأغلال والظلم ،وعندما يرون إنساناً مظلوماً نراهم يهبون للدفاع عنه بالقول والعمل .
وبهذا النحو يكون الأوّل رماد اشتدت به الريح ،والثّاني أرض مباركة طيّبة لنمو النباتات والثمار والأوراد .
ويتّضح من هنا ما دار بين المفسّرين من المقصود من العمل في الآية أعلاه ،وهو أنّ مراد الآية جميع أعمال الكفّار حتّى أعمالهم الحسنة في الظاهر ،إلاّ أنّها مبطّنة بالشرك والإلحاد .
3مسألة الإحباط
هناك جدل كبير بين علماء المسلمين في مسألة «حبط الأعمال » فهل معناه ذهاب عمل الخير بسبب عمل الشرّ ،أو بسبب الكفر وعدم الإيمان ،ولكن الحقّ ما قلناه في ذيل الآية ( 217 ) من سورة البقرة ،من أنّ الإصرار على الكفر والعناد وأيضاً بعض الأعمال الأُخرى كالحسد والغيبة وقتل النفس لها آثار سيّئة كبيرة بحيث تذهب بأعمال الخير والحسنات .
والآية أعلاه دليل آخر في إمكان حبط الأعمال{[1984]} .
4هل للمخترعين والمكتشفين ثواب إلهي ؟
بالنظر للبحوث الآنفة الذكر يرد سؤال مهمّ ،وهو أنّنا من خلال مطالعتنا في تأريخ العلوم والاختراعات والاكتشافات نرى أنّ هناك مجموعة من العلماء استطاعوا أن يقدّموا خدمات جليلة للبشرية وتحمّلوا في سبيل خدمة البشرية منتهى الشدّة والصعوبة ليقدّموا اختراعاتهم واكتشافاتهم للناس ،فعلى سبيل المثال مخترع الكهرباء «أديسون » تحمّل الصعاب ويُقال فقد حياته في هذا الطريق لكنّه أضاء العالم ،وحرّك المعامل ،وببركة اختراعه وجدت الآبار العميقة حيث اخضّرت الأرض وتغيّرت الدنيا .و «باستور » الذي اكتشف المكروب ،وأنقذ ملايين الناس من الموت المحتوم ..فهؤلاء وعشرات مثلهم كيف يجعلهم الله في جهنّم لكونهم غير مؤمنين ؟مع أنّ هناك أفراداً لم يقدّموا أيّة خدمة للإنسانية طول حياتهم ،ويدخلون الجنّة !
الجواب: إنّ العمل في حدّ ذاته ليس كافياً من وجهة نظر العقيدة الإسلامية ،بل قيمته في النيّة والقوى المحرّكة له ،فكثيراً ما نشاهد من أعمال الخير كبناء مدرسة أو مستشفى أو أي عمل آخر وهدف صاحبه في الظاهر هو خدمة المجتمع الإنساني ،إلاّ أنّه تحت هذا الغطاء شيء آخر وذاك هو حفظ جاهه أو ماله أو جلب أنظار الناس إليه ،وتحكيم منافعه المادية ،أو حتّى ستر خيانته بعيداً عن أنظار الآخرين !
وعلى العكس ،فمن الممكن أن يعمل شخص عملا صغيراً ،إلاّ أنّه مخلص في نيّته صادق ،والآن يجب أن نحقّق في ملفات هؤلاء الرجال العظام من وجهة نظر عملهم وكذلك الأسباب والدوافع ،وهي لا تخرج من أحد اُمور:
ألف:يكون الهدف من الاختراع أحياناً عملا تخريبيّاً ( كما في اكتشاف الطاقة النووية حيث كان الهدف الأوّل منها صناعة القنابل النووية ) ويمكن الاستفادة منها لخدمة الإنسان ،إلاّ أنّه لم يكن الهدف الأصلي من اختراعها ،فقيمة عمل هذه المجموعة من المخترعين واضح تماماً .
ب:وقد يكون هدف المخترع أو المكتشف الربح المادّي أو الشهرة ،فحكمهفي الحقيقةحكم التاجر الذي يقوم بتأسيس الخدمات العامّة لكي يحصل على أرباح أكثر ،ويقوم بتشغيل العمّال وإنتاج المحاصيل الزراعية للبلد ،فالهدف من كلّ ذلك هو الحصول على أكبر وارد ممكن ،ولو كان هناك عمل أكثر ربحاً لركض وراءه .
بالطبع فإنّ هذه التجارة لو كانت طبقاً للموازين الشرعيّة ،فإنّها ليست حراماً ،إلاّ أنّها لا تحتسب عملا مقدّساً ومهمّاً .
ومثل هؤلاء المخترعين والمكتشفين ليسوا قليلين على طول التاريخ ،فطريقة تفكيرهم أن يقدّموا العمل الأكثر ربحاًحتّى لو كان مضرّاً بالمجتمع( فمثلا صناعة الأدوية لها من الفوائد 20% بينما في صناعة الهيروئين 50% فهم يرجّحون الثّاني على الأوّل ) فحكم هذه المجموعة واضح أيضاً ،حيث لم يطلبوا من الله ولا من الناس أي شيء وجزاؤهم الربح والشهرة فقط .
ج:هناك مجموعة ثالثة لا شكّ في أنّ دوافعها إنسانية ،أو إلهيّة إذا كانت الجماعة مؤمنة ،وأحياناً يمضون سنين طويلة في زوايا المختبرات بكامل الفاقة والحرمان على أمل أن يقدّموا خدمة لبني جنسهم ،أو هديّة للعالم ،ليحلّوا أغلال المتعبين ،ويمسحوا التراب من وجوه المعذّبين .فإذا كان هؤلاء الأفراد مؤمنين ودوافعهم إلهيّة فمصيرهم واضح .
وأمّا إذا كانوا غير مؤمنين ودوافعهم إنسانيّة ،فسوف يحصلون على الجزاء المناسب من الله بلا أدنى شكّ ،هذا الجزاء يمكن أن يكون في الدنيا أو الآخرة ،فالله عزّ وجلّ عالم وعادل لا يحرمهم من ذلك ،ولكن كيف ؟تفاصيله غير واضحة لنا ،ويمكن أن نقول: ( إنّ الله لا يضيّع أجر هؤلاء المحسنين فيما إذا كانوا غير مقصّرين لعدم إيمانهم ) .
وليس عندنا أي دليل من أنّ الآية ( إنّ الله لا يضيّع أجر المحسنين ) لا تشمل هؤلاء الأفراد ،فإطلاق المحسنين في القرآن ليس خاصّاً بالمؤمنين فقط ،ولذلك نرى أنّ إخوة يوسف لما حضروا عنده وهم لا يعرفوه ويظنّون أنّه عزيز مصر قالوا: ( إنّا نراك من المحسنين ){[1985]} .
وكذلك الآية ( فمن يعمل مثقال ذرّة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شرّاً يره ) تشمل هؤلاء الأفراد .
عن علي بن يقطين عن الإمام الكاظم ( عليه السلام ) قال: «كان في بني إسرائيل رجل مؤمن وجاره كافر ،وكان هذا الجار الكافر يحسن إلى جاره المؤمن ،فعندما ارتحل من الدنيا بنى له الله بيتاً يمنعه من نار جهنّم .وقيل له: إنّ هذا بسبب حسن سيرتك مع جارك المؤمن »{[1986]} .
وعن النّبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال: «إنّ ابن جدعان أقلّ أهل جهنّم عذاباً » قالوا: لماذا يا رسول الله ؟قال «إنّه كان يطعم الطعام » وعبد الله بن جدعان أحد مشركي مكّة المعروفين ومن زعماء قريش{[1987]} .
وعن النّبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال لعدي بن حاتم الطائي «رفع عن أبيك العذاب الشديد بسخاء نفسه »{[1988]} .
وعن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال: «أتى رسول الله وفد من اليمن وكان فيهم رجل أعظمهم كلاماً وأشدّهم في محاجة النّبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ،فغضب النّبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حتّى التوى عرق الغضب بين عينيه ،وتغيّر وجهه وأطرق إلى الأرض فأتاه جبرئيل فقال: ربّك يقرئك السلام ويقول لك: هذا رجل سخي يطعم الطعام ،فسكن عن النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم )الغضب ورفع رأسه وقال: لولا أنّ جبرئيل أخبرني عن الله عز ّوجلّ أنّك سخي تُطعم الطعام ،لشدوت بك وجعلتك حديثاً لمن خلفك ،فقال له الرجل: وإنّ ربّك ليحبّ السخاء ؟فقال: نعم ،قال: إنّي أشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّك رسول الله والذي بعثك بالحقّ لا رددت عن مالي أحداً »{[1989]} .
وهنا يأتي هذا السؤال والذي يمكن أن نستفيده من بعض الآيات وكثير من الرّوايات ،وهو: هل أنّ الإيمان والولاية شرط لقبول الأعمال والدخول إلى الجنّة ؟فإذا كان كذلك فإنّ أفضل أعمال الكفّار ليس مقبولا عند الله .
ويمكن أن نجيب على هذا السؤال بأنّ مسألة «قبول الأعمال » شيء ،و «الجزاء المناسب » شيء آخر ،فمثلا المشهور بين علماء المسلمين أنّ الصلاة بدون حضور القلب أو مع ارتكاب بعض الذنوب كالغيبة غير مقبولة عند الله ،ونحن نعلم أنّ مثل هذه الصلوات صحيحة شرعاً ،وتحتسب طاعة لأوامر الله وتفرغ بها ذمّة المصلّي والطاعة لا تكون بدون أجر .ولذلك فقبول العمل هو الدرجة العالية للعمل ،ونحن نقول هذا أيضاً: إذا كانت الخدمات الإنسانية مصاحبة للإيمان فلها أعلى المضامين ،ولكن في غير هذه الصورة لا تكون بدون مضمون وجزاء ،وجزاء العمل لا ينحصر بدخول الجنّة .( هذه عصارة الفكرة بما يتناسب وهذا التّفسير ،وتفصيل ذلك في الأبحاث الفقهيّة ) .