الآية الثّانية في البحث والتي هي آخر آية في سورة الكهف ،عبارة عن مجموعة مِن الأسس والأصول للاعتقادات الدينية ،التي تتركز في التوحيد والمعاد ورسالة الرّسول( صلى الله عليه وآله وسلم ) .والآية في مضمونها إِشارة إلى نفس المضمون الذي ورد في بداية السورة المباركة .ففي البداية تحدَّثت السورة عن الله والوحي والجزاء والقيامة ،والآية الأخيرة هي خلاصة لمجموع ما ورد في السورة ،التي اشتملت في قسم مهم منها على الأصول الثلاثة الآنفة باعتبارها محاور للسورة .
ولأنَّ قضية النبوة قد اقترنت مع أشكال مِن الغلو والمبالغة على طول التأريخ ،لذا فإِنَّ الآية تقول: ( قل إِنّما أنا بشرٌ مِثلكم يوحى إِليّ ) .
وهذا التعبير القرآني نسف جميع الامتيازات المقرونة بالشرك التي تُخرج الأنبياء مِن صفة البشرية إلى صفة الألوهية .
ثمّ تشير الآية إلى قضية التوحيد مِن بين جميع القضايا الأُخرى في والوحي الالهي حيث تقول: ( إِنما إِلهكم إِله واحد ) .
أمّا لماذا تمت الإِشارة إلى هذه القضية ؟فذلك لأنَّ التوحيد هو خلاصة جميع المعتقدات ،وغاية كل البرامج الفردية والاجتماعية التي تجلب السعادة للإِنسان .
وفي مكان آخر ،أشرنا إلى أنَّ التوحيد ليسَ أصلا مِن أصول الدين وحسب ،وإِنّما هو خلاصة لجميع أصول وفروع الإِسلام .
لو أردناعلى سبيل المثالأن نشبِّه التعليمات الإِسلامية مِن الأصول والفروع على أنّها قطع مِن الجواهر ،عندها نستطيع أن نقول: إِنَّ التوحيد هو السلك والخيط الذي يربط جميع هذه القطع إلى بعضها البعض ليتشكَّل مِن المجموع قلادة جميلة وثمينة .
وإِذا أردنا أن نشبِّه التعليمات الإِسلامية أصولا وفروعاً بأعضاء الجسم ،فإِنَّ التوحيد سيكون روح الإِنسان التي تهب الحياة لكافة الأعضاء .
وقد أثبتنا في بحوثنا حول المعاد والنبوة أنَّ هذين الأصلَيْن لا ينفصلان عن التوحيد .يعني: عندما نعرف الخالق بجميع صفاته ،فإِنّنا نعلم أنَّ مثل هذا الخالق يجب أن يرسل الأنبياء ،وتقتضي حكمته وعدالته أن توجد محكمة عادلة وأن يكون هناك بعثاً .
والمسائل الاجتماعية ،وكل المجتمع الإِنساني وما يرتبط به ،ينبغي أن يكون فيه شعاع مِن التوحيد حتى يتوحد وينتظم ويستقر .
لهذا السبب نقرأ في الأحاديث القدسية إِن: «كلمة لا اله إلاّ الله حصني فمن دخل حصني أمن من عذابي » .
وكل منّا قد سمع أيضاً أن النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال في بداية الإِسلام: ( قولوا لا إِله إِلاَّ الله تفلحوا ) .
الجملة الثّالثة في الآية الكريمة تشير إلى قضية البعث وتربطها بالتوحيد بواسطة ( فاء التفريع ) حيث تقول: ( فمن كان يرجوا لقاءَ ربّه فليعمل عملا صالحاً ) .
بالرغم مِن أن لقاء الله بمعنى المشاهدة الباطنية ورؤية الذات المقدسة بعين البصيرة هو أمرٌ ممكن في هذه الدنيا بالنسبة للمؤمنين الحقيقيين ،إِلاَّ أنَّ هذه القضية تكتسب جانباً عاماً يوم القيامة بسبب مشاهدة الآثار الكبيرة والواضحة والصريحة للخالق تبارك وتعالى .لذا فإِنَّ القرآن استخدم هذا التعبير في خصوص يوم القيامة .
مِن جانب آخر ،فإِنَّ الإِنسان الذي ينتظر أمراً معيناً ،ويأمل شيئاً ما ،فمن الطبيعي أن يهيئ نفسهُ ويعدّها لاستقبال ذلك الأمر .أمّا الشخص الذي يدّعيولا يستعد ،وينتظر ولا يعمل ،فهو في الواقع مدع كاذب لا غير .
لهذا السبب فإِنَّ الآية أعلاه تقول: ( فليعمل عملا صالحاً ) وردت بصيغة الأمر ؛الأمر الذي يلازمه الرجاء والأمل بانتظار لقاء الله .
وفي آخر جملة ثمّة توضيح للعمل الصالح في جملة قصيرة ،هي قوله تعالى: ( ولا يشرك بعبادة ربّه أحداً ) .
بعبارة أُخرى: لا يكون العمل صالحاً ما لم تتجلى فيه حقيقة الإِخلاص .
فالهدف الإِلهي يعطي لعمل الإِنسان عمقاً ونورانية خاصّة ،ويوجهه الوجهة الصحيحة ،وعندما نفقد الإِخلاص يكون العمل ذا جنبة ظاهرية حيث يشير إلى المنافع الخاصّة ،ويفقد عمقه وأصالته ووجهتهُ الصحيحة .
في الحقيقة إِنَّ العمل الصالح الذي ينبع مِن أهداف إلهية ،ويمتزج بالإِخلاص ويتفاعل معه ،هو الذي يكون جوازاً للقاء الله تبارك وتعالى .
وقد أشرنا سابقاً إلى أنَّ العمل الصالح لهُ مفهوم واسع للغاية ،وهو يشمل أي برنامج مفيد وبنّاء ،فردي واجتماعي ،وفي أي قضية مِن قضايا الحياة .
الإِخلاص أو روح العمل الصالح:
أعطت الرّوايات الإِسلامية مكانةً خاصّة لقضية «النية » ،والإِسلام في العادة يقر بقبول الأعمال بملاحظة النية والهدف مِن العمل .
الحديث المشهور عن النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ): «لا عمل إِلاَّ بنية » بيانٌ واضح لهذه الحقيقة .
وبعد ( النية ) هناك ( الإِخلاص ) ،فلو اقترن العمل بالإِخلاص فسيكون عملا ثميناً للغاية ،وبدون الإِخلاص هو لا قيمة له .والإِخلاص هو أن تكون الدوافع الإِنسانية خالية مِن أي نوع مِن أنواع الشوائب ،ويمكن أن نسمّي الإِخلاصب «توحيد النية » يعني التفكير بالله وبرضاه في جميع الأُمور والحالات .
والطريف في الأمر هنا هو ما ورد في سبب نزول هذه الآية مِن أنَّ رجلا جاء إلى النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقال: إِنّي أتصدق وأصل الرحم ،ولا أصنع ذلك إِلاَّ لله ،فيذكر ذلك مِنّي ،وأحمد عليه فيسرّني ذلك ،وأعجب بهِ .فسكت رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) ،ولم يقل شيئاً ،فنزلت الآية: (...فمن كانَ يرجوا لقاء ربَّه فليعمل عملا صالحاً ولا يشرك بعبادة ربِّة أحداً ){[2330]} .
إِنَّ المقصود مِن هذه الرّواية ليسَ الفرح أو السرور اللاإِرادي ،بل هي الحالة التي يكون فيها الفرح والسرور هدفاً لعمل الإِنسان ،أو الحالة التي تؤدي إلى عدم خلوص النية .
فالعمل الخالص يعتبر مهماً في الإِسلام إلى الحد الذي يقول فيه رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ): «مَن أخلص لله أربعين يوماً فجّر الله ينابيع الحكمة مِن قلبه على لسانه »{[2331]} .