وتقول الآية التالية بصراحة: ( ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إِذا قضى أمر فإِنّما يقول له كن فيكون ) وهذا إِشارة إلى أن اتخاذ الولدكما يظن المسيحيون في شأن اللهلا يناسب قداسة مقام الألوهية والربوبية ،فهو يستلزم من جهة الجسمية ،ومن جانب آخر المحدودية ،ومن جهة ثالثة الاحتياج ،وخلاصة القول: تنزيل الله سبحانه من مقام قدسه إلى إِطار قوانين عالم المادة ،وجعله في حدود موجود مادي ضعيف ومحدود .
الله الذي له من القوّة والقدرة ما إِذا أراد فإِن آلاف العوالم كعالمنا المترامي الأطراف ستتحقق بأمر وإِشارة منه ،ألا يعتبر شركاً وانحرافاً عن أصول التوحيد ومعرفة الله بأن نجعله سبحانه كإِنسان له ولد ؟وولد أيضاً الولد في مرتبة ودرجة الأب ،ومن نفس طرازه !
إِنّ تعبير ( كن فيكون ) الذي جاء في ثمانية موارد من القرآن ،تجسيد حي جدّاً عن مدى سعة قدرة الله ،وتسلطه وحاكميته في أمر الخلقة ،ولا يمكن تصور تعبير عن الأمر أقصر وأوجز من ( كن ) ولا نتيجة أوسع وأجمع من ( فيكون )خاصّة مع ملاحظة «فاء التفريع » التي تعطي معنى الفورية هنا ،فإِنّها لا تدل هنا على التأخير الزماني بتعبير الفلاسفة ،بل تدل على التأخير الرتبي ،أي تبيّن ترتب المعلوم على العلة .دققوا جيداً .
نفي الولد يعني نفي الاحتياج عن الله:
لماذا تحتاج الكائنات الحية إلى الولد عادة ؟لأنّ عمرها محدود ،ولكيلا ينقرض نسلها ،ومن أجل أن تستمر حياتها النوعية ؟!
ومن الناحية الاجتماعية ،فإِنّ حاجة الأعمال الجماعية إلى طاقة إِنسانية أكبر أدّت إلى زيادة علاقة الإِنسان بالولد .إِضافة إلى أنّ الحاجات العاطفية والنفسية ،وإِزالة ودفع وحشة الوحدة ،كلها تدعوه إلى هذا العمل .
لكن ،هل تتصور مثل هذه الأُمور في حق الله الأزلي الأبدي الذي لا تنتهي قدرته ،ولا سبيل لمسألة الحاجة العاطفية إلى ذاته المقدسة أبداً ؟!
وهل نتج ذلك إِلاّ عن أن هؤلاء الذين يقولون: إِنّ لله ولداً ،قد قاسوا الله سبحانه على أنفسهم ،ورأوا فيه ما رأوا في أنفسهم ؟في حين أنّه ( ليس كمثله شيء ){[2354]} .
ملاحظة تاريخية هامة حول الهجرة الأُولى
إِنّ أوّل هجرة وقعت في الإِسلام كانت هجرة مجموعة كبيرة من المسلمينضمت النساء والرجالإلى أرض الحبشة ،فقد ترك هؤلاء مكّة للخلاص من قبضة مشركي قريش ،وتنظيم أمرهم والتهيؤ بأقصى درجات الاستعداد للبرامج والمشاريع الإِسلامية المستقبلية وكما توقعوا من قبل ،فإِنّهم استطاعوا أن يعيشوا هناك في طمأنينة واستقرار ،ويشتغلوا بتربّية أنفسهم وتزكيتها ونشر الدين الحنيف .
لقد طرق هذا الخبر أسماع زعماء قريش ،فاعتبروا هذه القضية ناقوس خطر بالنسبة إِليهم ،وأحسوا بأنّ الحبشة ستكون مأوى وملجأ للمسلمين ،وربّما يرجعون إلى مكّة بعد أن تقوى شوكتهم ،وبالتالي سيخلقون للمشركين مشاكل وعراقيل عظيمة .
وبعد التشاور استقر رأيهم على انتخاب رجلين من رجال قريش النشيطين ،وإِرسالهما إلى النجاشي حتى يبيّنوا للنجاشي الأخطار التي تنجم عن وجود المسلمين هناك كي يطرد هؤلاء من هذه الأرض المطمئنة .فأرسلوا «عمرو بن العاص » و «عبد الله بن أبي ربيعة » مع هدايا كثيرة إلى النجاشي وقواد جيشه .
تقول «أم سلمة » زوجة النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ): لما دخلنا أرض الحبشة رأينا حسن استقبال ومعاملة النجاشي ،فلم نُمنع من شعائر ديننا ،ولم يكن يؤذينا أحد ،إِلاّ أنّ قريش بعد علمها بهذه المسألة ،وإرسالها الرجلين مع الهدايا الكثيرة ،كانت قد أمرت هؤلاء أن يلتقوا بقادة الحبشة قبل لقائه ،وأن يسلموهم هداياهم ،ثمّ يقدمون هدايا النجاشي إِليه ،ويطلبون منه أن يسلم المسلمين إِليهم قبل أن ينبسوا ببنت شفة !
وقد نفذ هؤلاء هذه الخطة بدقة ،وقالوا مقدماً لقواد وأمراء جيش النجاشي: إِنّ جماعة من الشباب الحمقى قد لجؤوا إلى أرضكم ،وقد ابتعد هؤلاء عن دينهم ،ولم يعتنقوا دينكم أيضاً ،وقد ابتدعوا ديناً جديداً لا نعرفه ،ولا أنتم تعرفونه ،وقد أرسلنا أشراف قريش إِليكم حتى نقطع شرّهم عن هذه البلاد ،ونعيدهم إلى قومهم ،فأخذوا من حاشية النجاشي عهداً بأنّهم متى ما استشارهم النجاشي فإنّه سيؤيدون هذه الفكرة ويقولون: إِن قوم هؤلاء أعلم بحالهم .ثمّ أدخلوا على الملك وكرروا ما توطئوا عليه .
لقد كانت هذه الخطة تسير خطواتها بدقة نحو الأمام ،وقد أصبحت هذه الكلمات الخداعة ،مع تلك الهدايا الكثيرة سبباً في أن تصدق حاشية النجاشي هؤلاء .
وبعد أن سمع النجاشي أقوالهم غضب وقال: لا والله ،لا أسلم قوماً جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني على من سواي حتى أدعوهم وأسألهم عمّا يقول هذا ،فإن كانا صادقين سلمتهم إِليهما ،وإِن كانوا على غير ما يذكر هذان منعتهم وأحسنت جوارهم .
تقول أم سلمة: فبعث النجاشي إلى المسلمين ،فتشاوروا فيما بينهم فيما يقولون ،واستقر رأيهم على أن يقولوا الحقيقة ،ويشرحوا تعليمات النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم )وبرنامج الإِسلام ،وليكن ما يكون !
لقد كان ذلك اليوم الذي عُيّن لهذه الدعوة يوماً عصيباً ،فإنّ كبار النصارى وعلماءهم كانوا قد دعوا إلى ذلك المجلس ،وكانت الكتب المقدسة في أيديهم ،فاستقبل النجاشي المسلمين وسألهم: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا في ديني ولا دين أحد من الملل ؟
فتصدى جعفر بن أبي طالب( عليه السلام ) للجواب وقال:
«أيّها الملك كنّا أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسيء الجوار ويأكل القوي منّا الضعيف حتى بعث الله إِلينا رسولا منّا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه فدعانا لتوحيد الله وأن لا نشرك به شيئاً ونخلع ما كنّا نعبد من الأصنام وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء ،ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وأمرنا بالصلاة والصيام » .
وعدد عليه أُمور الإِسلام قال: فآمنا به وصدقناه وحرمنا ما حرم علينا وحللنا ما أحل لنا فتعدى علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان فلمّا قهرونا وظلمونا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك واخترناك على من سواك ورجونا أن لا نُظلم عندك أيّها الملك .
فقال النجاشي: هل معك ممّا جاء به عن الله شيء ؟قال: نعم ،فقرأ عليه سطراً من «كهيعص » .
فلمّا قرأ جعفر هذه الآيات بقراءته المؤثرة النابعة من صفاء القلب ،أثرت في روح النجاشي وعلماء النصارى الكبار إلى الحد الذي كانت تنهمر دموعهم على وجوههم بدون إرادة ،فتوجه إِليهم النجاشي وقال: «إِن هذا والذي جاء به عيسى يخرج من مشكاة واحدة ،انطلقا والله لا أسلمهم إِليكما أبداً » .
ثمّ سعى رسولا قريش مساعي أُخرى لتغيير نظرة النجاشي تجاه المسلمين ،إِلاَّ أنّها لم تؤثر في روحه السامية الواعية ،فرجعا يائسين من هناك ،وأرجعوا إِليهم هداياهم{[2355]} .