وإِذا كانوا يتصورون أنّهم يستطيعون الخلاص عن طريق الشفاعة ،فإِنّهم يجب أن يعلموا أن هؤلاء الذين يرجونهم ( لا يملكون الشفاعة ) فلا أحد يشفع لهؤلاء ،فمن طريق أولى أن لا يقدروا على الشفاعة لأحد ( إِلاّ من اتّخذ عند الرحمن عهداً ) فهؤلاء هم الوحيدون الذين تنفعهم وتشملهم شفاعة الشافعين ،أو أن مقامهم أعلى من هذه الرتبة أيضاً ،ولهم القدرة والصلاحية لأن يشفعوا للعاصين الذين يستحقون الشفاعة .
ما معنى العهد ؟
لقد بحث المفسّرون بحوثاً كثيرة في المراد من العهد في الآية الشريفة التي تقول: ( لا يملكون الشفاعة إلاّ من اتخذ عند الرحمن عهداً ) .
فقال بعضهم: إِنّ العهد هو الإِيمان بالله ،والإِقرار بوحدانيته ،وتصديق أنبياء الله .
وقال البعض الآخر: إِنّ العهد هنا يعني الشهادة بوحدانية الحق تعالى ،والبراءة ممن يعتقد بقدرة غير الله ،وكذلك لا يرجو إلا الله تعالى .
وعن الإِمام الصادق( عليه السلام ) أنّه قال في جواب سؤال أحد أصحابه عن تفسير هذه الآية: «من دان بولاية أمير المؤمنين والأئمّة من بعده فهو العهد عند الله »{[2395]} .
وفي رواية أُخرى عن النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) أنّه قال: «من أدخل على مؤمن سروراً فقد سرني ،ومن سرني فقد اتّخذ عند الله عهداً »{[2396]} .
وفي حديث آخر عن النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) أنّ المحافظة على العهد هي المحافظة على الصلوات الخمس{[2397]} .
ومن تحقيق الرّوايات أعلاه ،والتي وردت في المصادر الإِسلامية المختلفة ،وكذلك كلمات كبار المفسّرين المسلمين ،نحصل على هذه النتيجة ،وهي أن للعهد عند اللهكما يستفاد ذلك من معناه اللغويمعنى واسعاً جمع فيه كل نوع من أنواع الارتباط بالله ومعرفته وطاعته ،وكذلك الارتباط بمذهب أولياء الحق ،وكل عمل صالح ،وإن كان كل رواية قد أشارت إلى جانب من ذلك ،أو إلى مصداق معين .
ولذلك نقرأ في حديث آخر ورد عن رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) في بيان كيفية الوصية ،وقد جمعت فيه كل المسائل الإِعتقادية تقريباً ،حيث قال( صلى الله عليه وآله وسلم ):
«إِذا حضرتهأي المسلمالوفاة واجتمع الناس إِليه قال: اللهم فاطر السماوات والأرض ،عالم الغيب والشهادة ،الرحمن الرحيم ،إِني أعهد إِليك في دار الدنيا ،أني أشهد أن لا إله إلاّ أنت وحدك لا شريك لك ،وأن محمّداً عبدك ورسولك ،وأن الجنة حق ،وأن النار حق ،وأن البعث حق ،والحساب حق ،والقدر والميزان حق ،وأن الدين كما وصفت ،والإِسلام كما شرعت ،وأن القول كما حدثت ،وأن القرآن كما أنزلت ،وأنك أنت الله الحق المبين .جزى الله محمّداً عنا خير الجزاء ،وحيا الله محمّداً وآله بالسلام .
اللهم يا عدتي عند كربتي ،ويا صاحبي عند شدتي ،ويا ولي نعمتي ،إِلهي وإله آبائي ،لا تكلني إلى نفسي طرفة عين ،فإِنك إِن تكلني إلى نفسي أقرب من الشر ،وأبعد من الخير .وآنس في القبر وحشتي ،واجعل لي عهداً يوم ألقاك منشوراً .ثمّ يوصي بحاجته .وتصديق هذه الوصية في سورة مريم في قوله: ( لا يملكون الشفاعة إِلا من اتخذ عند الرحمن عهداً ) ،فهذا عهد الميت والوصية حق ...»{[2398]} .
ومن البديهي أنّ المراد ليس هو قراءة أو كتابة هذه المطالب المذكورة أعلاه بالعربية أو بغيرها من اللغات ،بل المراد الإِيمان بها من صميم القلب لتبدو آثاره واضحة في كل نشاطات حياة الإِنسان .