الآية التالية ،تشير إلى جانب من الأعمال الإنتاجية الهامّة ،التي كان يقوم بها فريق الجنّ بأمر سليمان .
يقول تعالى: ( يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات ) .
فكلّ ما أراده سليمان من معابد وتماثيل وأواني كبيرة للغذاء والتي كانت كالأحواض الكبيرة ،وقدور واسعة ثابتة ،كانت تهيّأ له ،فبعضها يرتبط بالمسائل المعنوية والعبادية ،وبعضها الآخر يرتبط بالمسائل الجسمانية ،وكانت متناسبة مع أعداد جيشه وعمّاله الهائلة .
«محاريب » جمع محراب ،ويعني «مكان العبادة » أو «القصور والمباني الكبيرة » التي بنيت كمعابد .كذلك اُطلقت أيضاً على صدر المجلس ،وعندما بُنيت المساجد سمّي صدر المسجد به ،قيل: سمّي محراب المسجد بذلك لأنّه موضع محاربة الشيطان والهوى{[3480]} .وقيل: سمّي بذلك لأنّ الإنسان فيه يكون حريباً من أشغال الدنيا ومن توزّع الخواطر{[3481]} .
على كلّ حال ،فإنّ هؤلاء العمّال النشطين المهرة ،قاموا ببناء المعابد الضخمة والجميلة في ظلّ حكومته الإلهية والعقائدية ،حتّى يستطيع الناس أداء وظائفهم العبادية بسهولة .
«تماثيل »: جمع تمثال ،بمعنى الرسم والصورة والمجسمة ،وقد وردت تفاسير عديدة حول ماهية هذه التماثيل ولأي الموجودات كانت ؟أو لماذا أمر سليمان بصنعها ؟.
يمكن أن تكون صنعت لتزيين المباني ،كما نلاحظ ذلك في المباني المهمّة القديمة في عصرنا الحالي ،أو حتّى في بعض المباني الجديدة .
أو لإضفاء الاُبّهة والهيبة على المباني التي بنيت ،حيث أنّ رسم بعض أنواع الحيوانات كالأسد مثلا يضفي نوعاً من الاُبّهة في أفكار غالبية الناس .
ثمّ ،هل كان صنع تماثيل ذوات الأرواح مباحاً في شريعة سليمان ( عليه السلام ) مع كونه حراماً في الشريعة الإسلامية ؟أو أنّ التماثيل التي كانت تصنع لغير ذوات الروح من الموجودات كالأشجار والجبال والشمس والقمر والنجوم ؟
أو أنّها كانت مجرّد نقوش ورسوم على الجدرانكما تلاحظ في الآثار القديمةوهي غير محرّمة كما هو الحال في حرمة التماثيل المجسّمة .
كلّ ذلك محتمل ،لأنّ تحريم صناعة المجسّمات في الإسلام ،كان بقصد مكافحة قضيّة عبادة الأوثان وإقتلاعها من الجذور ،في حين أنّ ذلك لم يكن بتلك الدرجة من الضرورة في زمن سليمان ،لذا لم تحرم في شريعته !
ولكنّنا نقرأ في رواية عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) في تفسير هذه الآية أنّه قال: «والله ما هي تماثيل الرجال والنساء ولكنّها الشجر وشبهه »{[3482]} .
وبالإستناد إلى هذه الرّواية فإنّ صنع التماثيل من ذوات الروح في شريعة سليمان كان حراماً أيضاً .
«جفان » جمع «جفنة » بمعنى إناء الطعام .
«جوابي » جمع «جابية » بمعنى حوض الماء .
وهنا يستفاد أنّ المقصود من التعبير الوارد في الآية الكريمة ،أنّ هؤلاء العمّال قد صنعوا لسليمان ( عليه السلام ) أواني للطعام كبيرة جدّاً ،بحيث أنّ كلاًّ منها كان كالحوض ،لكي يستطيع عدد كبير من الأفراد الجلوس حوله وتناول الطعام منه .والإستفادة من الأواني الجماعية الكبيرة لتناول الطعام كانت موجودة إلى أزمنة ليست بالبعيدة .وفي الحقيقة فإنّ مائدتهم كانت تلك الأواني الكبيرة التي لا تشبه ما نستعمله هذه الأيّام من أوان صغيرة ومستقلّة .
«قدور »: جمع «قدر » على وزن «قشر » .بنفس معناه الحالي ،أي الإناء الذي يطبخ فيه الطعام .
«راسيات »: جمع «راسية » بمعنى ثابتة ،والمقصود أنّ القدور كانت من العظمة بحيث لا يمكن تحريكها من مكانها .
وتعرج الآية في الختام وبعد ذكر هذه المواهب الإلهية ،إلى آل داود فتخاطبهم: ( اعملوا آل داود شكراً وقليل من عبادي الشكور ) .
وبديهي أنّ ( الشكر ) الذي أشارت إليه الآية ،لو كان مقصوداً به الشكر باللسان لما كانت هناك أدنى مشكلة ولمّا كان العاملون به قليلين ،ولكن المقصود هو ( الشكر العملي ) .أي الإستفادة من تلك المواهب في طريق الأهداف التي خلقت لأجلها .والمسلّم به أنّ الذين يستفيدون من المواهب الإلهية في طريق الأهداف التي خلقت لأجلها هم الندرة النادرة .
قال بعض العلماء: إنّ للشكر ثلاثة مراحل: الشكر بالقلب ،بتصوّر النعمة والرضى والسرور بها .والشكر باللسان ،وبالحمد والثناء على المنعم .الشكر بسائر الأعضاء والجوارح ،وذلك بتطبيق الأعمال مع متطلّبات تلك النعمة .
«شكور »: صيغة مبالغة .يعبّر بها عن كثرة الشكر ودوامه بالقلب واللسان والأعضاء والجوارح .
وهذه الصفة تطلق أحياناً على الله سبحانه وتعالى ،كما ورد في الآية ( 17 ) من سورة التغابن: ( إنّه شكور حليم ) .والمقصود به أنّ الله سبحانه وتعالى ،يشمل العباد المطيعين بعطاياه وألطافه ،ويشكرهم ،ويزيدهم من فضله أكثر ممّا يستحقّون .
كذلك يمكن أن يكون التعبير ب ( قليل من عبادي الشكور ) إشارة إلى تعظيم مقام هذه المجموعة النموذجية ،أو بمعنى حثّ المستمع ليكون من أفراد تلك الزمرة ويزيد جمع الشاكرين .
/خ14