وكذلك فإنّ الآية الأخيرة من هذه الآيات توضيح وتعليل آخر لعدم المساواة بين الكافرين والمؤمنين ،إذ تقول: ( أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون ) .
وهنا سؤال يطرح نفسه ،وهو: كيف يمكن أن يتخذ الإنسان إلهه هواه ؟
غير أنّ من الواضح الجلي أنّ الإنسان عندما يضرب صفحاً عن أوامر الله سبحانه ،ويتبع ما تمليه عليه شهواته ،ويقدم طاعتها على طاعة الله سبحانه ويعتبر ذلك حقّاً ،فقد عبد هواه ،وهذا عين معنى العبادة ،إذ أنّ أحد المعاني المعروفة للعبادة هو الطاعة .
وقد ورد في القرآن الكريم الكثير ممّا يبيّن هذا المعنى كعبادة الشيطان أو عبادة أحبار اليهود ،فيقول القرآنمثلاًفي الآية ( 60 ) من سورة يس: ( ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان ) .
ويقول في الآية ( 31 ) من سورة التوبة: ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله ) .
وجاء في حديث عن الإمامين الباقر والصادق عليهما السلام أنهما قالا: «أما والله ما صاموا لهم ،ولا صلوا ،ولكنّهم أحلوا لهم حراماً وحرموا عليهم حلالاً ،فاتبعوهم ،وعبدوهم من حيث لا يشعرون »{[4350]} .
غير أنّ بعض المفسّرين يعتبر هذا التعبير إشارة إلى الوثنيين من قريش ،الذين إذا ما عشقوا شيئاً وأحبوه صنعوا على صورته صنماً ثمّ عبدوه وعظموه ،وكلما رأوا شيئاً آخر أعجبهم أكثر من صنمهم أعرضوا عن الأوّل وتوجهوا إلى عبادة الثّاني ،وعلى هذا فإنّ إلههم كان الشيء الذي ترتضيه أنفسهم وتهواه{[4351]} .
إلاّ أنّ تعبير: ( من اتخذ إلهه هواه ) أكثر انسجاماً مع التّفسير الأوّل .
أما في مورد جملة:( أضله الله على علم ) فالتّفسير المعروف هو أنّ الله سبحانه قد أضلهم لعلمه بأنّهم لا يستحقون الهداية ،وهو إشارة إلى أنّ هؤلاء قد أطفأوا بأيديهم كلّ مصابيح الهداية وحطموها ،وأغلقوا في وجوههم كلّ سبل النجاة ،ودمروا وراءهم جسور العودة إلى طريق الحق ،فعند ذلك سلبهم الله تعالى رحمته ولطفه ،وأفقدهم القدرة على تشخيص الصالح من الطالح ،وتركهم في ظلماتلا يبصرون ،وكأنّما ختم على قلبهم وسمعهم ،وجعل على أبصارهم غشاوة .
وما كلّ ذلك في الحقيقة إلاّ آثار لما اختط هؤلاء لأنفسهم من مسير ،ونتيجة مشؤومة لعبادة الآلهة التي اتخذوها .
ولا صنم في الحقيقة أخطر من اتباع هوى النفس الذي يوصد كلّ أبواب الرحمة وطرق النجاة بوجه الإنسان ؟وكم هو بليغ وعميق الحديث المروي عن الرّسول الأكرم( صلى الله عليه وآله وسلم ): «ما عبد تحت السماء إله أبغض إلى الله من الهوى »{[4352]} .
إلاّ أنّ بعض المفسّرين يعتبر هذه الجملة إشارة إلى أنّ متبعي الهوى هؤلاء قد اختاروا طريق الضلالة طريقاً لهم عن علم ودراية ،لأنّ العلم لا يقارن الهداية دائماً ،كما لا تكون الضلالة دائماً قرينة الجهل .
إنّ العلم الذي يتمسك الإنسان بلوازمه أساس الهداية ،فعليه كي يصل إلى مراده وهدفه أن يتحرك على هدي هذا العلم ،وألا يكون كأُولئك الكفار العنودين الذين قال بحقهم القرآن: ( وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم{[4353]} ){[4354]} .
إلاّ أنّ التّفسير الأوّل هو الأنسب بملاحظة أنّ مرجع الضمائر في الآية إلى الله سبحانه ،لأنّها تقول: ( أضله الله وختم على سمعه وقلبه ) .
ممّا قلناه يتّضح جيداً أنّ الآية تدلمن قريب أو بعيدعلى مذهب الجبرية ،بل هي تأكيد على أصل الاختيار وتعيين الإنسان مصيره بنفسه .
لقد أوردنا بحوثاً أكثر تفصيلاً وإيضاحاً حول ختم الله على قلب الإنسان وسمعه ،وإلقاء الغشاوة على قلبه في ذيل الآية ( 7 ) من سورة البقرة{[4355]} .
/خ23