ويأمر الله سبحانه نبيّه في آخر آية من هذه الآيات ،وهي آخر آية في سورة الأحقاف ،على أساس ملاحظة ما مرّ في الآيات السابقة حول المعاد وعقاب الكافرين ،أن: ( فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ) فلست الوحيد الذي واجه مخالفة هؤلاء القوم وعداوتهم ،فقد واجه أولو العزم هذه المشاكل وثبتوا أمامها واستقاموا ،فنبيّ الله العظيم نوح ( عليه السلام ) دعا قومه ( 950 ) سنة ،ولم يؤمن به إلاّ فئة قليلة ،وكان قومه يؤذونه دائماً ،ويسخرون منه .
وألقوا إبراهيم ( عليه السلام ) في النّار ،وهددوا موسى ( عليه السلام ) بالقتل ،وكان قلبه قد امتلأ قيحاً من عصيانهم ،وكانوا يريدون قتل المسيح ( عليه السلام ) بعد أن آذوه كثيراً ،فأنجاه الله منهم .
وخلاصة القول: إنّ الأمر كان وما يزال كذلك ما كانت الدنيا ،ولا يمكن التغلب على هذه المشاكل إلاّ بقوّة الصبر والاستقامة والثبات .
من هم أولو العزم من الرسل ؟
هناك بحث واختلاف كبير جدّاً بين المفسّرين في: مَن هم أولو العزم ؟وقبل أن نحقق في هذا ،ينبغي أن نحقق في معنى ( العزم ) ،لأنّ ( أولو العزم ) بمعنى ذوي العزم .
«العزم » بمعنى الإرادة الصلبة القوية ،ويقول الراغب في مفرداته: إنّ العزم هو عقد القلب على إمضاء الأمر .
وقد استعملت كلمة العزم في مورد الصبر في آيات القرآن المجيد أحياناً ،كقوله تعالى: ( ولمن صبر وغفر إنّ ذلك لمن عزم الأُمور ){[4425]} .
وجاءت أحياناً بمعنى الوفاء بالعهد ،كقوله تعالى: ( ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزماً ){[4426]} .
لكن بملاحظة أنّ أصحاب الشرائع والأديان الجديدة من الأنبياء قد ابتلوا بمشاكل أكثر ،وواجهوا مصاعب أشد ،وكانوا بحاجة إلى عزم وإرادة أقوى وأشد لمواجهتها ،فقد أطلق على هذه الفئة من الأنبياء ( أولو العزم ) والآية مورد البحث إشارة إلى هذا المعنى ظاهراً .وهي تشير ضمناً إلى أن نبيّ الإسلام( صلى الله عليه وآله وسلم )من هذه الفئة ،لأنّها تقول: ( فاصبر كما صبر أولو العزم ) .
وإذا كان البعض قد فسّر العزم والعزيمة بمعنى الحكم والشريعة فمن هذه الجهة ،وإلاّ فإنّ كلمة العزم لم تأتِ في اللغة بمعنى الشريعة .
وعلى أية حال ،فطبقاً لهذا المعنى تكون ( من ) في ( من الرسل ) تبعيضية ،وإشارة الى فئة خاصّة من الأنبياء كانوا أصحاب شريعة ،وهم الذين أشارت إليهم الآية 7 من سورة الأحزاب: ( وإذ أخذنا من النبيّين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً ) .
فقد أشارت الآية إلى هؤلاء الأنبياء الخمسة بعد ذكر جميع الأنبياء بصيغة الجمع ،وهذا دليل على خصوصيتهم .
وتتحدث الآية ( 13 ) من سورة الشورى عنهم أيضاً ،فتقول: ( شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى ) .
وقد رويت في هذا الباب روايات كثيرة في مصادر الشيعة والسنّة ،تدل على أنّ الأنبياء أولي العزم كانوا خمسة ،كما ورد في حديث عن الإمامين الباقر والصادق عليهما السلام: «ومنهم خمسة: أولهم نوح ،ثمّ إبراهيم ثمّ موسى ،ثمّ عيسى ، ثمّ محمّد »{[4427]} .
وجاء في حديث آخر عن الإمام علي بن الحسين ( عليه السلام ): «منهم خمسة أولو العزم من المرسلين: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمّد » .وعندما يسأل الراوي: لم سموا ( أولو العزم ) ؟يقول الإمام ( عليه السلام ) مجيباً: «لأنّهم بعثوا إلى شرقها وغربها ،وجنّها وإنسها »{[4428]} .
وكذلك ورد في حديث عن الإمام الصادق ( عليه السلام ): «سادة النبيّين والمرسلين خمسة ،وهم أولو العزم من الرسل ،وعليهم دارت الرحى: نوح ،وإبراهيم ،وموسى ،وعيسى ،ومحمّد »{[4429]} .
وروي هذا المعنى في تفسير الدر المنثور عن ابن عباس أيضاً ،بأنّ الأنبياء أولي العزم هم هؤلاء الخمسة{[4430]} .
إلاّ أنّ بعض المفسّرين يعتقد أنّ ( أولو العزم ) إشارة إلى الأنبياء الذين أُمروا بمحاربة الأعداء وجهادهم .
واعتبر البعض عددهم ( 313 ) نفراً{[4431]} ،ويرى البعض أنّ جميع الأنبياء ( أولو عزم ) أي أصحاب إرادة{[4432]} صلبة وطبقاً لهذا القول ،فإنّ ( من ) في ( من الرسل ) بيانية لا تبعيضية .
إلاّ أنّ التّفسير الأوّل أصح منها جميعاً ،وتؤيده الروايات الإسلامية .
ثمّ يضيف القرآن بعد ذلك: ( ولا تستعجل لهم ) أي للكفار لأنّ القيامة ستحل سريعاً ،وسيرون بأعينهم ما أطلقوه عليها وادعوه فيها ،ويجزون أشدّ العذاب ،وعندها سيطلعون على أخطائهم ،ويعرفون ما كانوا عليه من الضلالة والغي .
إنّ عمر الدنيا قصير جدّاً بالنسبة إلى عمر الآخرة ،حتى: ( كأنّهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلاّ ساعة من نهار ) .
إنّ هذا الإحساس بقصر عمر الدنيا بالنسبة إلى الآخرة ،إمّا بسبب أنّ هذه الحياة ليست إلاّ ساعة أمام تلك الحياة الخالدة حقيقة وواقعاً ،أو لأنّ الدنيا تنقضي عليهم سريعاً حتى كأنّها لم تكن إلاّ ساعة ،أو من جهة أنّهم لا يرون حاصل كلّ عمرهم الذي لم يستغلوه ويستفيدوا منه الاستفادة الصحيحة إلاّ ساعة لا أكثر .
هنا سيغطي سيل الأحزان والحسرة قلوب هؤلاء ،ولات حين ندم ،إذ لا سبيل الى الرجوع .
لهذا نرى النّبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وقد سئل: كم ما بين الدنيا والآخرة ؟فقال: «غمضة عين ،ثمّ يقول: قال الله تعالى: ( كأنّهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلاّ ساعة من نهار ) »{[4433]} .وهذا يوحي بأنّ التعبير بالساعة لا تعني مقدار الساعة المتعارفة ،بل هو إشارة إلى الزمان القليل القصير .
ثمّ تضيف الآية كتحذير لكلّ البشر «بلاغ »{[4434]} لكلّ أُولئك الذين خرجوا عن خط العبودية لله تعالى ..لأولئك الغارقين في بحر الحياة الدنيا السريعة الزوال والفناء ،والعابدين شهواتها ..وأخيراً هو بلاغ لكلّ سكان هذا العالم الفاني .
وتقول في آخر جملة تتضمن استفهاماً عميق المعنى ،وينطوي على التهديد: ( فهل يهلك إلاّ القوم الفاسقون ) ؟
/خ35
آمين يا ربّ العالمين .
نهاية سورة الأحقاف