التّفسير
في الآية الأولى إِشارة إلى أربعة «بدع » كانت سائدة في الجاهلية ،فقد كانوا يضعون على بعض الحيوانات علامات وأسماء لأسباب معينة ويحرمون أكل لحومها ولا يجيزون شرب لبنها أو جز صوفها أو حتى امتطاءها ،كانوا أحياناً يطلقون سراح هذه الحيوانات تسرح وتمرح دون أن يعترضها أحد ،أي أنّهم كانوا يطلقونها سائبة دون أن يستفيدوا منها شيئاً ،لذلك يقول الله تعالى: ( ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ) .
بحوث
1«البحيرة » هي النّاقة التي ولدت خمسة أبطن خامسها أنثىوقيل ذكرفيشقون أذُنها ،وتترك طليقة ولا تذبح .
«البحيرة » من مادة «بحر » بمعنى الواسع العريض ،ولهذا سمي البحر بحراً ،وتسمية الناقة بالبحيرة جاءت من شق أذنها شقاً واسعاً عريضاً .
2«السائبة » هي الناقة التي تكون قد ولدت اثني عشر بطناًوقيل عشرة أبطنفيطلقونها سائبة ولا يمتطيها أحد ،ولها أن ترعى حيثما تشاء وترد حيثما تشاء دون أن يعترضها أحد ،وقد يحلبونها أحياناً لإِطعام الضيف ،و«السائبة » من مادة «سيب » أي جريان الماء أو المشي بحرّية .
3«الوصيلة » هي الشاة التي ولدت سبعة أبطنوقيل أنّها التي تلد التوائم ،من مادة «وصل » وكانوا يحرمون ذبحها .
4«الحام » واللفظة اسم فاعل من مادة «حمى » ،ويطلق على الفحل الذي يتخذ للتلقيح ،فإذا استفيد منه في تلقيح الأناث عشر مرات وولدن منه ،قالوا: لقد حمى ظهره ،فلا يحق لأحد ركوبه ،ومن معاني «الحماية » المحافظة والحيلولة والمنع .
هناك احتمالات أُخرى وردت عند المفسّرين وفي الأحاديث بشأن تحديد هذه المصطلحات الأربعة ،لكن القاسم المشترك بين كل هذه المعاني هو أنّها تدل جميعاً على حيوانات قَدّمت خدمات كبيرة لأصحابها في «النتاج » فكان هؤلاء يحترمونها ويطلقون سراحها لقاء ذلك .
صحيح أنّ عملهم هذا ضرب من العرفان بالجميل ومظهر من مظاهر الشكر ،حتى نحو الحيوانات ،وهو بهذا جدير بالتقدير والإِجلال ،ولكنّه كان تكريماً لا معنى له لحيوانات لا تدرك ذلك .
كما كانفضلا عن ذلكمضيعة للمال وإِتلافاً لنعم الله وتعطيلها عن الاستثمار النافع ،ثمّ أنّ هذه الحيوانات ،بسبب هذا الاحترام والتكريم ،كانت تعاني من العذاب والجوع والعطش لأنّه قلما يقدم أحد على تغذيتها والعناية بها .
ولما كانت هذه الحيوانات كبيرة في السن عادة ،فقد كانت تقضي بقية أيّامها في كثير من الحرمان والحاجة حتى تموت ميتة محزنة ،ولهذا كله وقف الإِسلام بوجه هذه العادة !
إِضافة إلى ذلك ،يستفاد من بعض الرّوايات والتفاسير أنّهم كانوا يتقربون بذلك كله ،أو بقسم منه إلى أصنامهم ،فكانوا في الواقع ينذرون تلك الحيوانات لتلك الأصنام ،ولذلك كان إِلغاء هذه العادات تأكيداً لمحاربة كل مخلفات الشرك .
والعجيب في الأمر ،أنّهم كانوا يأكلون لحوم تلك الحيوانات إِذا ما ماتت موتاً طبيعياً ( وكأنّهم يتبركون بها ) وكان هذا عملا قبيحاً آخر{[1123]} .
ثمّ تقول الآية: ( ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب ) قائلين أنّ هذه قوانين إِلهية دون أن يفكروا في الأمر ويعقلوه ،بل كانوا يقلدون الآخرين في ذلك تقليداً أعمى: ( وأكثرهم لا يعقلون ) .