ثمّ يذكر القرآن الوصف الثالث لأهل الجنّة المتّقين فيقول: ( وفي أموالهم حقّ للسائل والمحروم ) .
كلمة «حقّ » هنا هو إمّا لأنّ الله أوجب ذلك عليهم: كالزكاة والخمس وسائر الحقوق الشرعية الواجبة ،أو لأنّهم التزموه وعاهدوا أنفسهم على ذلك ،وفي هذه الصورة يدخل في هذا المفهوم الواسع حتّى غير الحقوق الشرعية الواجبة .
ويعتقد بعض المفسّرين أنّ هذه الآية ناظرة إلى القسم الثاني فحسب ،فهيلا تشمل الحقوق الواجبة ..لأنّ الحقوق الواجبة واردة في أموال الناس جميعاً ،المتّقين وغير المتّقين حتّى الكفّار .
فعلى هذا حين يقول القرآن: ( وفي أموالهم حقّ ) فإنّما يعني أنّه إضافة إلى واجباتهم وحقوقهم أوجبوا على أنفسهم حقّاً ينفقونه من مالهم في سبيل الله للسائل والمحروم .
إلاّ أنّه يمكن أن يقال أنّ الفرق بين المحسنين وغيرهم هو أنّ المحسنين يؤدّون هذه الحقوق ،في حين أنّ غيرهم ليسوا مقيدين بذلك .
كما يمكن أن يقال في تفسير الآية أنّ المراد بالسائل في ما يخصّ الحقوق الواجبة ،لأنّه يحقّ له السؤال والمطالبة بها ..والمراد بالمحروم في ما يخصّ الحقوق المستحبّة إذ ليس له حقّ المطالبة بها .
ويصرّح «الفاضل المقداد » في كتابه «كنز العرفان » أنّ المراد من قوله: ( حقّ معلوم ) هو الحقّ الذي ألزموه أنفسهم في أموالهم ويرون أنفسهم مسؤولين عنه{[4699]} .
وجاء نظير هذا المعنى في سورة المعارج الآيتين 24 و25 إذ يقول سبحانه: ( والذين في أموالهم حقّ معلوم للسائل والمحروم ) .
ومع ملاحظة أنّ حكم وجوب الزكاة نزل في المدينة وآيات هذه السورة جميعها مكيّة ،فيتأيّد الرأي الأخير .
وما وصلنا من روايات عن أهل البيت ( عليهم السلام ) يؤكّد أيضاً أنّ المراد من «حقّ معلوم » شيء غير الزكاة الواجبة .إذ نقرأ حديثاً عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) يقول{[4700]}: «لكنّ الله عزّ وجلّ فرض في أموال الأغنياء حقوقاً غير الزكاة فقال عزّ وجلّ ( والذين في أموالهم حقّ معلوم للسائل ) ،فالحقّ المعلوم غير الزكاة وهو شيء يفرضه الرجل على نفسه في ماله ...إن شاء في كلّ يوم وإن شاء في كلّ جمعة وإن شاء في كلّ شهر » .
وفي هذا المجال أحاديث متعدّدة أخر منقولة عن الإمام علي بن الحسين والإمام الباقر والإمام الصادق أيضاً{[4701]} .
وهكذا فإنّ تفسير الآية واضح بيّن .
وهناك كلام في الفرق بين «السائل » و «المحروم » ،فقال بعضهم «السائل » هو من يطلب العون من الناس ،أمّا «المحروم » فمن يحافظ على ماء وجهه ويبذل قصارى جهده ليعيش دون أن يمدّ يده إلى أحد ،أو يطلب العون من أحد ،بل يصبّر نفسه .
وهذا هو ما يعبّر عنه بالمحارف ،لأنّه قيل في كتب اللغة في معنى «المحارف » بأنّه الشخص الذي لا ينال شيئاً مهمّاً سعى وجدّ فكأنّ سبل الحياة مغلقة بوجهه !
وعلى كلّ حال ،فهذا التعبير يشير إلى هذه الحقيقة وهي لا تنتظروا أن يأتيكم المحتاجون ويمدّوا أيديهم إليكم ،بل عليكم أن تبحثوا عنهم وتجدوا الأفراد المحرومين الذين يعبّر عنهم القرآن بأنّهم ( يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفّف ){[4702]} ..لتساعدوهم وتحفظوا ماء أوجههم ،وهذا دستور مهم لحفظ حيثية المسلمين المحرومين وينبغي الاهتمام به .
وهؤلاء الأشخاص يمكن معرفتهمكما صرّح بذلك القرآن «تعرفهم بسيماهم » .
أجل فبرغم سكوتهم إلاّ أنّ في عمق وجوههم آثار الهموم وما تحمله أنفسهم من آلام يعرفها المطّلعون ،ويخبر لون وجههم عن كربتهم .
/خ19