التّفسير
تشير هذه الآية إِلى واحد من الأعذار التي يتذرع بها المشركون ،فقد جاء في بعض الرّوايات أنّه عندما عجز بعض رؤساء قريش عن معارضة القرآن ومقابلته ،قالوا لرسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ): كل هذا الذي تقوله لا فائدة فيه ،إِذا كنت صادقاً فيما تقول ،فأتنا بمعجزات كعصا موسى وناقة صالح ،يقول القرآن بهذا الشأن: ( وقالوا لولا نزل عليه آية من ربّه ) .
من الواضح أنّ أُولئك لم يكونوا جادين في بحثهم عن الحقيقة ،لأنّ الرّسول( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان قد جاء لهم من المعاجز بما يكفي ،وحتى لو لم يأت بمعجز سوى القرآن الذي تحداهم في عدة آيات منه ودعاهم بصراحة إِلى أن يأتوا بمثله فعجزوا عن ذلك ،لكان فيه الكفاية لإِثبات نبوته ،غير أنّ هؤلاء المزيفين كانوا يبحثون عن عذر يتيح لهم إِهانة القرآن من جهة ،والتملص من قبول دعوة الرّسول( صلى الله عليه وآله وسلم ) من جهة أُخرى ،لذلك كانوا لا يفتأون يطالبونه بالمعجزات ،ولو أنّ رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) استجاب لمطالبهم لأنكروا كل ذلك بقولهم ( هذا سحر مبين ) ،كما جاء في آيات أُخرى من القرآن ،لذلك يأمر الله رسوله أن: ( قل إِنّ الله قادر على أن ينزل آية ) إِلاّ أنّ في ذلك أمراً أنتم عنه غافلون ،وهو أنّه إِذا حقق الله مطاليبكم التي يدفعكم إِليها عنادكم ،ثمّ بقيتم على عنادكم ولم تؤمنوا بعد مشاهدتكم للمعاجز ،فسوف يقع عقاب الله عليكم جميعاً ،وتفنون عن آخركم ،لأنّ ذلك سيكون منتهى الاستهتار بمقام الأُلوهية المقدس وبمبعوثه وآياته ومعجزاته ،ولهذا تنتهي الآية بالقول: ( ولكن أكثرهم لا يعلمون ) .
إِشكال:
يتبيّن من تفسير «مجمع البيان » أنّ بعض مناوئي الإِسلام قد اتّخذوا من هذه الآيةمنذ قرون عديدةدليلا يستندون إِليه في الزعم بأنّه لم تكن لرسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) أية معجزة ،لأنّه كلما طلبوا منه معجزة كان يكتفي بالقول: إِنّ الله قادر على ذلك ،ولكن أكثركم لا تعلمون ،وهذا ما نهجه بعض الكتاب المتأخرين فأحيوا هذه الفكرة البالية مرّة أُخرى .
الجواب:
أوّلا: يبدو أنّ هؤلاء لم يمعنوا النظر في الآيات السابقة والتّالية لهذه الآية ،وإِلاّ لأدركوا أنّ الكلام يدور مع المعاندين الذين لا يستسلمون للحق مطلقاً ،وإِنّ موقف هؤلاء هو الذي منع رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) من إِجابة طلبهم ،فهل نجد في القرآن أنّ طلاب الحقيقة سألوا الرّسول( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن يحقق لهم معجزة فامتنع ؟الآية ( 111 ) من هذه السورة نفسها تتحدث عن أمثال هؤلاء فتقول: ( ولو أننا نزلنا إِليهم الملائكة وكلّمهم الموتى وحشرنا عليهم كلّ شيء قبلا ما كان ليؤمنوا ) .
ثانياً: تفيد الرّوايات أنّ هذا الطلب تقدم به بعض رؤساء قريش ،وكان هدفهم من ذلك إِهانة القرآن والإِعراض عنه ،فمن الطبيعي أن لا يستجيب رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) لطلب يكون دافعه بهذا الشكل .
ثالثاً: إِنّ أصحاب هذا الإِشكال قد أغفلوا سائر آيات القرآن الأُخرى التي تصرّح بأنّ القرآن نفسه معجزة خالدة ،وكثيراً ما دعت المخالفين إِلى معارضته ،وأثبتت ضعفهم وعجزهم عن ذلك ،كما أنّهم نسوا الآية الأُولى من سورة الإِسراء التي تقول بكل وضوح: إنّ الله أسرى بنبيّه من المسجد الحرام إِلى المسجد الأقصى في ليلة واحدة .
رابعاً: ليس من المعقول أن يكون القرآن مليئاً بذكر معاجز الأنبياء وخوارق عاداتهم ويدّعي النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) إِنّه خاتم الأنبياء وأرفعهم منزلة ،وأنّ دينه أكمل من أديانهم ثمّ ينكص عن إِظهار معجزة استجابة لطلب الباحثين عن الحقّ والحقيقة ،أفلا يكون هذا نقطة غامضة في دعوته في نظر المحايدين وطلاب الحقيقة ؟
فلو لم تكن له أية معجزة ،لكان عليه أن يسكت عن ذكر معاجز الأنبياء الآخرين لكي يتمكن من تمرير خطّته ويغلق طريق الاعتراض والانتقاد عليه ،ولكنّه لا يفتأ يتحدث عن إِعجاز الآخرين ويعدد خوارق العادات عند موسى بن عمران وعيسى بن مريم وإِبراهيم وصالح ونوح( عليهم السلام ) ،وهذا دليل بيّن على ثقته التامّة بمعاجزه ،إِنّ كتب التّأريخ الإِسلامي والرّوايات المعتبرة ونهج البلاغة تشير بما يشبه التواتر إِلى خوارق عادات رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) .