ثمّ يوجّه البارئ عزّ وجلّ الخطاب لنبيّه الكريم ويقول: ( فذرني ومن يكذّب بهذا الحديث ) .
وهذه اللهجة تمثّل تهديداً شديداً من الواحد القهّار لهؤلاء المكذّبين المتمردين ،حيث يخاطب الرّسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بقوله: لا تتدخّل ،واتركني مع هؤلاء ،لأعاملهم بما يستحقّونه .وهذا الكلام الذي يقوله ربّ قادر على كلّ شيء ، بالضمنباعث على اطمئنان الرّسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والمؤمنين أيضاً ،ومشعراً لهم بأنّ الله معهم وسيقتصّ من جميع الأعداء الذين يثيرون المشاكل والفتن والمؤامرات أمام الرّسول والرسالة ،ولن يتركهم الله تعالى على تماديهم .
ثمّ يضيف سبحانه: ( سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إنّ كيدي متين ) .
نقرأ في حديث عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) أنّه قال: «إذا أحدث العبد ذنباً جدّد له نعمة فيدع الاستغفار ،فهو الاستدراج »{[5394]} .
والذي يستفاد من هذا الحديثوالأحاديث الأخرى في هذا المجالأنّ الله تعالى يمنحأحياناًعباده المعاندين نعمة وهم غارقون في المعاصي والذنوب وذلك كعقوبة لهم .فيتصوّرون أنّ هذا اللطف الإلهي قد شملهم لجدارتهم ولياقتهم له فيأخذهم الغرور المضاعف ،وتستولي عليهم الغفلة ..إلاّ أنّ عذاب الله ينزل عليهم فجأة ويحيط بهم وهم بين أحضان تلك النعم الإلهية العظيمة ..وهذا في الحقيقة من أشدّ ألوان العذاب ألماً .
إنّ هذا اللون من العذاب يشمل الأشخاص الذين وصل طغيانهم وتمردّهم حدّه الأعلى ،أمّا من هم دونه في ذلك فإنّ الله تعالى ينبّههم وينذرهم عن ممارساتهم الخاطئة عسى أن يعودوا إلى رشدهم ،ويستيقظوا من غفلتهم ،ويتوبوا من ذنوبهم ،وهذا من ألطاف البارئ عزّ وجلّ بهم .
وبعبارة أخرى: إذا أذنب عبد فإنّه لا يخرج من واحدة من الحالات الثلاث التالية:
إمّا أن ينتبه ويرجع عن خطئه ويتوب إلى ربّه .
أو أن ينزل الله عليه العذاب ليعود إلى رشده .
أو أنّه غير أهل للتوبة ولا للعودة للرشد بعد التنبيه له ،فيعطيه الله نعمة بدل البلاء وهذا هو: ( عذاب الاستدراج ) والذي أشير له في الآيات القرآنية بالتعبير أعلاه وبتعابير أخرى .
لذا يجب على الإنسان المؤمن أن يكون يقظاً عند إقبال النعم الإلهية عليه ،وليحذر من أن يكون ما يمنحه الله من نعم ظاهرية يمثّل في حقيقته ( عذاب الاستدراج ) ولذلك فإنّ المسلمين الواعين يفكّرون في مثل هذه الأمور ويحاسبون أنفسهم باستمرار ،ويعيدون تقييم أعمالهم دائماً ،كي يكونوا قريبين من طاعة الله ،ويؤدّون حقّ الألطاف والنعم التي وهبها الله لهم .
جاء في حديث أنّ أحد أصحاب الإمام الصادق( عليه السلام ) قال: إنّي سألت الله تبارك وتعالى أن يرزقني مالا فرزقني ،وإنّي سألت الله أن يرزقني ولداً فرزقني ،وسألته أن يرزقني داراً فرزقني ،وقد خفت أن يكون ذلك استدراجا ؟فقال: «أمّا مع الحمد فلا »{[5395]} .