/م179
فتتحدث عن المجموعة الأُولىأهل النّار أوّلا ،فتأتي بالقسم والتوكيد فتقول ( ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإِنس ) .
وكلمة «ذرأنا » مشتقّة من «ذَرَأَ » ،وتعني هنا الإِيجاد والخلق ،غير أنّها في أصل اللغة تعني نشر الشيء وتفريقه ،وقد وردت بهذا المعنى «الثّاني » في القرآن أيضاً ،كما في عبارة ( تذروه الرّياح ){[1492]} .
ولأنّ خلق الكائنات يستلزم تفريقها وتوزيعها وانتشارها على وجه الأرض ،فقد جاءت هذه الكلمة بمعنى خلق «المخلوق » أيضاً:
وعلى كل حال ،فإنّ الإشكال المهم في هذا التعبير هو كيف قال الله سبحانه ( ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس ) ؟في حين قال في مكان آخر ( وما خلقت الجن والإِنس إلاّ ليعبدون ){[1493]} وطبقاً لمعنى هذه الآية فإنّ الجن والإنس لم يخلقوا لغير عبادة الله والرقي والتكامل والسعادة ،أضف إلى ذلك أنّ هذا التعبير تُشمّ منه رائحة الجبر في الخلق ،ومن هنا فقد استدل بعض مؤيدي مدرسة الجبر من أمثال الفخر الرازي بهذه الآية لإثبات مذهبه .
لكنّنا لو ضممنا آيات القرآن بعضها إلى بعض وبحثناها موضوعيّاً دون أن نُبتلى بالسطحيّة ،لوجدنا الجواب على هذا السؤال كامناً في الآية محل البحث ذاتها ،كما هو بيّن في آيات أُخرى من القرآن الكريم أيضاً ...بحيث لا يدع مجالا لأنّ تُستغل الآية ليُساء فهمها لدى بعض الأفراد .مثلُ هذا التعبير كمثل قول النجار إذ يقول مثلا: إنّ قسماً كبيراً من هذا الخشب وقد هيأته لكي أصنع منه أبواباً جميلة ،والقسم الآخر هو للإحراق والإضرام ...فالخشب الرائق الجيّد المناسب سأستعمله للقسم الأوّل ،وأمّا الخشب الرديء غير المناسب فسأدعه للقسم الثّاني .
ففي الحقيقة أنّ للنجار هدفين: هدفاً «أصيلا » وهدفاً ( تبعيّاً ) .
فالهدف الأصيل هو صنع الأبواب والأُطر الخشبيّة الجيّدة وما إلى ذلك ،وهو يبذل قصارى جهده وسعيه في هذا المضمار ...
إلاّ أنّه حين يجد أنّ بعض الخشب لا ينفعه شيئاً ،فسيكون مضطراً إلى نبذه ليكون حَطباً للحرق والإشعال ،فهذا الهدف «تبعيّ » لا أصلي .
والفرق الوحيد بين هذا المثال وما نحن فيه ،أنّ الاختلاف بين أجزاء الخشب ليس اختياراً ،واختلاف الناس له صلة وثيقة بأعمالهم أنفسهم ،وهم مختارون وإرادتهم حرّة بإزاء أعمالهم .
وخير شاهد على هذا الكلام ما جاء من صفات لأهل النّار وصفات لأهل الجنّة في الآيات محل البحث ،التي تدل على أنّ الأعمال هي نفسها أساس هذا التقسيم ،إذ كان فريق منهم في الجنّة ،وفريق في السعير .
وتعبير آخر فإنّ الله سبحانهووفقاً لصريح آيات القرآن المختلفةخلق الناس جميعهم على نسق واحد طاهرين ،ووفّر لهم أسباب السعادة والتكامل ،إلاّ أنّ قسماً منهم اختاروا بأعمالهم جهنم فكانوا من أهلها فكان عاقبة أمرهم خُسراً ...وأن قسماً منهم اختاروا بأعمالهم الجنّة وكان عاقبة أمرهم السعادة ....
ثمّ يلخّص القرآن صفات أهل النّار في ثلاث جمل ،إذ تقول الآية: ( لهم قلوب لا يفقهون بها ) ...
وقد قلنا مراراً: إنّ التعبير ب «القلب » في مصطلح القرآن يعني الفكر والروح وقوّة العقل ،أي أنّهم بالرّغم ممّا لديهم من استعداد للتفكير ،وأنّهم ليسوا كالبهائم فاقدي الشعور والإِدراك ،إلاّ أنّهم في الوقت ذاته لا يفكرون في عاقبتهم ولا يستغلون تفكيرهم ليبلغوا السعادة .
والصفة الثّانية التي ذكرتها الآية لأهل النّار ( ولهم أعين لا يبصرون بها ) .
والصفة الثّالثة الواردة في حقهم ( ولهم أذان لا يسمعون بها أُولئك كالأنعام بل هم أضل ) .
لأنّ البهائم والأنعام لا تملك هذه الاستعدادات والإِمكانات ،إلاّ أنّهم بما لديهم من عقل سالم وعين باصرة وأذن سامعة ،بإمكانهم أن يبلغوا كل مراتب الرقي والتكامل ،إلاّ أنّهم نتيجةً لإتباعهم هواهم ورغبتهمبكل هذه التوافه من الأُمور تركوا هذه الاستعدادات جانباً ...وكان شقاؤهم كبيراً لهذا السبب: ( أُولئك هم الغافلون ) .
فالمعين الذي يحييهم ويروي ظمأهم موجود إلى جانبهم وهم على مقربة منه ،إلاّ أنّهم يتصارخون من الظمأ .وأبواب السعادة مفتحة أمامهم لكنّهم لا يلتفتون إليها .
ويتّضح ممّا ذكرناه أنفاً أنّهم اختاروا بأنفسهم سُبلَ شقائهم وهدروا النعم الكبرى «العقل والعين والأذن ...» لا أنّ الله أجبرهم على أن يكونوا من أهل النّار .
لماذا هم كالأنعام ؟
لقد شبّه القرآن الكريم الجاهلين الغافلين عديمي الشعور بالأنعام والبهائم مراراً ،إلاّ أن تشبيه القرآن هؤلاء بالأنعام لعلّه بسبب انهماكهم باللذائذ والشهوات الجنسية والنوم فحسب ،فهم كالأُمم التي تحلم في الوصول إلى حياة مادية مرفهة تحت شعارات برّاقة تخدع الإنسان بأنّ آخر هدف للعدالة الاجتماعية والقوانين البشرية هو الحصول على الخبز والماء ...
وكما يشبهها الإِمام علي( عليه السلام ) في نهج البلاغة قائلا: «كالبهيمة المربوطة همّها علفها ،أو المرسلة شغلها تقممها »{[1494]} .
وبتعبير آخر: إنّ جماعة منهم تنعم بالرفاه كالأغنام المربوطة التي تُدجن لتسمن ،وجماعة آخرين كالغنم السائمة الباحثة عن العلف والماء في الصحراء ،إلاّ أن هدف كل منهما هو ما يشبع البطن ليس إلاّ !.
وهذا الذي ذكرناه أنفاً قد يصدق على شخص معين كما قد يصدق أُمّة كاملة برمّتها ،فالأُمم التي لا تفكر بنفسها وتتلّهى بالأُمور التافهة غير الصائبة ،ولا تعالج جذور شقائها ولا تطمح لأسباب الرقّي ،ليس لها أذان سامعة ولا أعين باصرة ،فهي من أهل النّار أيضاً ،لا نار القيامة فحسب ،بل هي مبتلاة بنار الدنيا وشقائها كذلك .
/خ181