المفردات:
ذرأنا: خلقنا .
لا يفقهون: لا يفهمون ولا يدركون .
الغافلون: التاركون لما ينفعهم الساهون عنه .
{179 - ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ...} الآية .
خلق الله الإنسان بقدرته ،وأودع فيه وسائل الهدى وعوامل التبصر ،وأكرمه بالإرادة والاختيار .
قال تعالى:{إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا} .
أي: بينا له الطريق وأوضحنا له الصراط المستقيم ،فمن الناس من اختار الضلالة ،وغلب عليه الهوى ،قال تعالى:{وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله} . ( الأنعام: 153 ) .
وآيات القرآن في هذا الموضوع كثيرة جدا ،منها المحكم ومنها المتشابه ،والمؤمن مطالب بالإيمان بالمحكم ،والتفويض إلى الله في المتشابه .
ومما أحكمه القرآن وبينه ،عدالة الله الحكيم العليم ،فهو سبحانه قد بين للناس طريق الخير وطريق الشر ،ووضح أسباب الهدى والضلالة ،وأنزل الكتب وأرسل الرسل ،وأودع في الإنسان العقل والإدراك والضمير ،ومن الناس من يستخدم بصره وبصيرته في التأمل والهدى فيعينه الله ويوفقه ،ومن الناس من يؤثر العاجلة على الآجلة ،ويمهل ضميره ،ويغلق بصره وبصيرته ،ويغرق في الشهوات ،ويصم أذنه عن دواعي الهدى ،وهذا هو الذي يسلب الله عنه هداه وتوفيقه ،فتراه أصم لا يسمعبسمع قلبه وضميره ،أعمى لا يبصر ببصر قلبه وهداية ضميره .
هذا المعنى تكرر كثيرا في القرآن الكريم مثل قوله تعالى:{إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون * أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون * إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم} . ( يونس: 7 - 9 ) .
وقد نقل السيد رشيد رضا في تفسير المنار كلاما نفيسا عن تفسير روح المعاني ،ثم قال السيد رشيد رضا ما يأتي:
والاحتجاج بالآية على الجبر غفلة وجهل ،بل هي كسائر الدالة على نوط الجزاء بالعمل .
ومعناها: أن هؤلاء المكلفين من الجن والإنس ،قد تركوا استعمال عقولهم ومشاعرهم الباطنة والظاهرة في علم الهدى ،الذييترتب عليه الأعمال المزكية للنفس ،فكانوا بذلك أهل جهنم ،وليس فيها أنه تعالى ذرأهم لجهنم لذواتهم ،فإن ذوات الجنسين كلها متشابهة ،ولم يقل: إنه خلقهم عاجزين عن استعمال تلك القوى في أسباب الهدى ،بل قال: إنهم لم يستعملوها في ذلك .
قال تعالى:{وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير} . ( الملك: 9 ،10 ) .
{ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها} .
أي: والله لقد خلقنا خلقا كثيرا من الجن والإنس ،مستعدين لعمل يستحق صاحبه دخول جهنم .
وأسباب استحقاقهم دخول جهنم ،هي أنهم لا يستعملون عقولهم استعمالا صحيحا للوصول إلى حقيقة الإيمان ،وإدراك لذة السعادة الدنيوية والأخروية ،وأن الخير فيما أمر الله به ،وأن الشر فيما نهى الله عنه .
قال ابن الجوزى في زاد المسير في علم التفسير:
لهم قلوب لا يفقهون بها .لما أعرض القوم عن الحق والتفكر فيه ،كانوا بمنزلة من لم يفقه ولم يبصر ولم يسمع .
وقال محمد بن القاسم النحوي: أراد بهذا أمر الآخرة ،فإنهم يعقلون أمر الدنيا .اه .
كما قال تعالى:{يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون} . ( الروم: 7 ) فهم بمنزلة من لا يفقه ؛لأنهم لا ينتفعون بقلوبهم الواعية ،ولا يعقلون ثوابا ولا يخافون عقابا .
{ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها} .
إنهم لم يستخدموا عقولهم في فهم الحجج والآيات التي أنزلها الله إليهم ،وهم أيضا لا ينظرون بأعينهم نظر تبصر واعتبار وإمعان ،في آيات الله الكونية ،وآياته القرآنية التي ترشدهم إلى ما فيه سعادتهم ،ولا يسمعون بآذانهم سماع تدبر وإصغاء: آيات الله المنزلة على أنبيائه ،ولا يسمعون أخبار التاريخ والأمم الغابرة ،وكيف كان مصيرهم بسبب إعراضهم عن هداية الله وإرشاد الرسل .
وليس الغرض من نفي السمع والبصر ،نفي الإدراكات عن حواسهم ،وإنما المقصود: بيان حجبها عن أبصار الهدى وسماع المواعظ .وقد يكون الإنسان سليم البصر ،لكنه أعمى البصيرة .
قال تعالى:{أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون} . ( الجاثية: 23 ) .
وقديما قال الشاعر العربي:
وإذا كان القلب أعمى ***عن الرشد فماذا تفيده العينان
{أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون} .
أي: أولئك الموصوفون بما ذكر من تعطيل عقولهم ،وحواسهم كالأنعام( البقر والإبل والغنم ) ،لا همّ لهم إلا الأكل والشرب والتمتع بملذات الحياة الدنيا ،بل هم أضل سبيلا منها: لأن الأنعام تحرص على ما ينفعها ،وتنفر مما يضرها ،ولا تسرف في أكلها وشربها ،وهؤلاء يقدمون على النار معاندة ،وهم مسرفون في جميع اللذات ،ولا يهتدون إلى ثواب .
ولا قدرة للحيوانات على تفصيل الفضائل ،وأما الإنسان فأعطى القدرة على تحصيلها ،أولئك هم كاملو الغفلة عن آيات الله ،وعن استعمال مشاعرهم وعقولهم ،فيما خلقت من أجله ،وهو الاستفادة من المسموعات والانتفاع من المبصرات ولقد غفلوا عن التدبر ،وأعرضوا عن الآخرة .
أما العقلاء الفطنون منهم ،الذين عملوا للدنيا والآخرة ،كما قال تعالى:{وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين} . ( القصص: 77 ) .
قال النسفي: كيف يستوي المكلف المأمور والمخلى المعذور ،فالآدمي روحاني شهواني ،سماوي أرضي ،فإن غلب روحه هواه ؛فاق ملائكة السماء ،وإن غلب هواه روحه ،فاقته بهائم الأرض .