إلى هنا أُشير إلى قسم من نعم الجنان من قبيل المساكن والأسرة والظلال والفواكه والشراب والأواني والجماعة المستقبلة للضيوف ،وحان الآن دور زينة أهل الجنان فيقول تعالى: ( عاليهم ثياب سندس خضر واستبرق ){[5655]} .
«سندس »: ثوب رقيق من الحرير ،و«الإستبرق » ثوب غليظ من الحرير ،وقيل أنّه مشتق من الكلمة الفارسية «أستبر » أو «ستبر » ،وقيل: أُخذ من أصل عربي ( برق ) أي التلألؤ .
ثم أضاف تعالى: ( وحلوا أساور من فضة ) .
وهي الفضة الشفّافة اللامعة كالبلّور وأجمل من الياقوت والدّر واللؤلؤ .
«أساور »: جمع «أسورة » على وزن ( مغفرة ) وهي بدورها جمع ( سوار ) على وزن ( غبار ) أو «سوار » على وزن ( حوار ) وأخذ في الأصل من الكلمة الفارسية ،( دستوار ) وعند انتقالها إلى العربية تغيّرت واختصرت وجاءت بصورة ( سوار ) .
إنّ اختيار اللون الأخضر للباس أهل الجنّة هو لكونه يبعث على النشاط كأوراق الأشجار الجميلة ،وبالطبع إنّ للّون الأخضر أنواعاً وأقساماً ،ولكل منها لطافة:
وورد في بعض آيات القرآن كالآية ( 30 ) من سورة الكهف أنّ أهل الجنان يزينون بأساور من ذهب: ( يحلون فيها من أساور من ذهب ) وهذا لا ينافي ما جاء في الآية التي نحن بصدد بحثها ،إذ يمكن أن يكون من باب التنويع ،فمرّة هذا ،ومرّة ذاك .
ويأتي هنا سؤال: أليس سوار الذهب والفضة من زينة النساء ،فكيف ذكر زينة لرجال الجنّة ؟
والجواب واضح ،فهناك الكثير من المجتمعات تكون زينة الذهب والفضة للرجال والنساء ( وإن حرمّ الإسلام لبس الذهب للرجال ) ولكن بالطبع هناك اختلاف بين أساور الرجال وبين أساور النساء ،ونقل عن لسان فرعون في الآية ( 53 ) من سورة الزخرف: ( فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب ) ويظهر من هذا أنّ لبس الرجال للذهب في مصر كان من علائم العظمة .بالإضافة إلى ما أشرنا إليه في السابق أنّه لا يكفي استعمال الألفاظ العادية المتداولة في هذه الدنيا لبيان نِعم الجنان ،وليس هناك من حلّ إلاّ باستعمال هذه الألفاظ للإشارة إلى تلك النعم العظيمة التي لا توصف .
ثمّ يقول تعالى في نهاية الآية مشيراً إلى آخر نعمة وأهمّها من سلسلة النعم:
( وسقاهم ربّهم شراباً طهوراً ) .
صحيح أنّ من بين هذه النعم ورد الحديث عن الأشربة السائغة من الأكواب المترعة من عين السلسبيل ،ولكنّ بينها وبين ما جاء في هذه الآية فرق كبير ،لأنّ السقاة هناك هم «الولدان المخلدون » من جهة ،والساقي هنا هو «الله تعالى » ،يا له من تعبير عجيب !خصوصاً مع ذكر كلمة ( رب ) الرب الذي طالما تلطف على الإنسان برعايته المستمرة له فكان مالكهُ ومربيه والذي كان يأخذ بيده في مراحل التكامل حتى يوصله إلى المرحلة الأخيرة التي يريدها له ،ثمّ تتجلّى ربوبيته إلى أعلى المراتب والحدود فيسقي بيده عباده الأبرار بالشراب الطهور .
ومن جهة أُخرى فإنّ «الطهور » هو الطاهر والمطهر ،وعلى هذا فإنّ هذا الشراب يطهر جسم الإنسان وروحه من كل الأدران والنجاسات ويهبه من الروحانية والنورانية والنشاط ما لا يوصف بوصف: حتى ورد في حديث عن الإمام الصادق( عليه السلام ) أنّه قال: «يطهرهم عن كلّ شيء سوى الله »{[5656]} .
إنّ هذا الماء الطهور أفضل من أيّة نعمة وأعلى من كلّ موهبة ،إذ أنّه يمزق ستار الغفلة ،ويزيل الحجب ،ويجعل الإنسان أهلاً للحضور الدائم في جوار القرب من الله تعالى ،فإذا كان شراب الدنيا يزيل العقل ويبعد الإنسان عن الله ،فإنّ الشراب الطهور يعطى من يد ساقي الجنّة ،فيجرّد الإنسان عن ما سوى الله ،ليغرق في جماله وجلاله ،وهذا أفضل ما ذكره الله تعالى من النعيم الخفي الموهوب في الجنّة ،ففي حديث روي عن النّبي( صلى الله عليه وآله ) حول عين الشراب الطهور المستقرة عند باب الجنّة قال: «فيسقون منها شربة فيطهر الله بها قلوبهم من الحسد !...وذلك قول الله عزَّ وجلّ ( وسقاهم ربّهم شراباً طهوراً ){[5657]} .
والظريف في عبارة طهور أنّها لم ترد في القرآن إلاّ في موردين: أحدهما في مورد المطر ( الفرقان 48 ) الذي يطهر كل شيء ويحيي البلاد الميتة ،والآخر في مورد الآية التي نحن بصدد بحثها ،وهو الشراب الخاص بأهل الجنّة .