وقد يتوهّم بعض السذّج من العبارة أعلاه أنّها تعني التفويض المطلق للعباد ،فجاءت الآية التالية لتنفي هذا التصور وتضيف: ( وما تشاءُون إلاّ أن يشاء الله إن الله كان عليماً حكيماً ){[5664]} .
وهذا في الحقيقة إثبات لأصل مشهور هو ( الأمر بين الأمرين ) ،إذ يقول من جهة: ( إنا هديناه السبيل ) فعليكم أن تختاروا ما تريدون ،ويضيف من جهة أُخرى: ( وما تشاءُون إلا أن يشاء الله ) أي ليس لكم الاستقلال الكامل ،بل إن قدرتكم واستطاعتكم وحريتكم لا تخرج عن دائرة المشيئة الإلهية ،وهو قادر على أن يسلب هذه القدرة والحرية متى شاء .
من هذا يتّضح أنّه لا جبر ولا تفويض في الأوامر ،بل إنّها حقيقة دقيقة وظريفة بين الأمرين ،أو بعبارة أُخرى: إنّها نوع من الحرية المرتبطة بالمشيئة الإلهية ،إذ يمكن سلبها متى يشاء ليتسنى للعباد تحمل ثقل المسؤولية الذي يعتبر رمزاً للتكامل من جهة ،ومن جهة أُخرى أن لا يتوهموا استغنائهم عن الله تعالى .
والخلاصة ،أنّ هذه الآية تدعو الإنسان إلى أن لا يتوهّم أنّه مستغن عن رعاية الله وتوفيقه .وفي نفس الوقت تؤكد حريته في أعماله وسلوكه .
ويتضح هنا أنّ تمسك بعض المفسّرين القائلين بالجبر كالفخر الرازي بهذه الآية بسبب الخلفيات الذهنية المسبقة في هذه المسألة ،فيقول: واعلم أنّ هذه الآية من جملة الآيات التي تلاطمت فيها أمواج الجبر والقدر !{[5665]} نعم ،إذا فَصَلنا هذه الآية عن الآيات السابقة فهناك محلّ لهذا الوهم .ولكن بالالتفات إلى ما ورد من تأثير الاختيار في آية ،وفي آية أُخرى تأثير المشيئة الإلهية ،يتّضح بصورة جيدة مفهوم ( الأمر بين الأمرين ) .
وعجيب أن أنصار التفويض يتمسكون بتلك الآية التي تتحدث عن الاختيار المطلق فقط ،وأنصار الجبرية يتمسكون بالآية التي تشير إلى الجبر فقط ،ويريد كل منهما تبرير أحكامهم المسبقة بتلك الآية ،والحال أنّ الفهم الصحيح للكلام الإلهي ( أو أي كلام آخر ) يستوجب ضمّ الآيات جنباً إلى جنب ،وترك التعصب والقضاء بالأحكام المسبقة .
ولعلّ آخر الآية: ( إن الله كان عليماً حكيماً ) .يشير حكمه إلى هذا المعنى ،لأنّ حكمة الله تستوجب إعطاء الحرية للعباد في سلوك طريق التكامل ،وإلاّ فإنّ التكامل الإجباري لا يعدّ تكاملاً ،بالإضافة إلى أنّ حكمة الله لا تتفق مع فرض الأعمال الخيرة على أُناس وفرض الأعمال الشريرة على أُناس آخرين ،ثمّ أنّه يثيب الجماعة الأُولى ويعاقب الثانية .