/م67
وفي الآية التالية إشارة إِلى حكم آخر من أحكام أسرى الحرب ،وهو حكم أخذ الفداء .
وقد جاء في بعض الرّوايات{[1579]} الواردة في شأن نزول هذه الآيات أنّه بعد انتهاء معركة بدر وأخذ الأسرى ،وبعدما أمر النّبي أن تضرب عنقا الأسيرين الخطرين «عقبة بن أبي معيط » و«النضر بن الحارث » خافت الأنصار أن ينفذ هذا الحكم في بقية الأسرى فُيحرموا من أخذ الفداء ،فقالوا: يا رسول الله إنّا قتلنا سبعين رجلا وأسرنا سبعين ،وكلّهم من قبيلتك فهب لنا هؤلاء الأسرى لنأخذ الفداء منهم .وكان النّبي يترقب نزول الوحي ،فنزلت هذه الآيات فأجازت أخذ الفداء في قبال إطلاق سراح الأسرى .
وروي أنّ أكثر ما عُين فداءً على الأسرى من المال هو أربعة آلاف درهم ،وأقلّه ألف درهم ،فلمّا سمعت قريش أرسلت فداء الواحد تلو الآخر حتى حررت أسراها .
والعجيب أن صهر النّبي على ابنته زينب «أبا العاص » كان من بين أسرى معركة بدر ،فأرسلت زوجته زينب قلادتها التي أهدتها أُمّها خديجة( عليها السلام ) إليها في زفافها ،لتفتدي بها زوجها ،فلمّا وقعت عينا النّبي على تلك القلادة وتذكر تضحية خديجة وجهادها ،وتجسّدت مواقفها أمام عينيه ،قال( صلى الله عليه وآله وسلم ): «رحم الله خديجة ،فهذه قلادة جعلتها خديجة في جهاز بنتي زينب .
ووفقاً لبعض الرّوايات فإنّه امتنع عن قبول القلادة احتراماً لخديجة وإكراماً ،واستجاز المسلمين في إرجاع القلادة ،فأذنوا له أن يرجع القلادة إِلى زينب ،ثمّ أطلق{[1580]} النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) سراح أبي العاص ،شريطة أن يرسل ابنته زينبالتي كانت قد تزوجت من أبي العاص قبل الإِسلامإِلى المدينة ،فوافق أبو العاص على هذا الشرط ووفى به بعدئذ{[1581]} .
وعلى أية حال ،فإنّ الآية محل البحث أجازت للمسلمين التصرف في غنائم المعركة ،والمبلغ الذي يأخذونه فداءً من الأسير ،فقالت: ( فكلوا ممّا غنمتم حلالا طيباً ) .
ويمكن أن تكون هذه الجملة ذات معنى واسع يشمل حتى الغنائم الأُخرى غير الفداء .
ثمّ تأمرهم الآية بالتقوى فتقول: ( واتقوا الله ) .وهذا إشارة إِلى أنّ جواز أخذ مثل هذه الغنائم لا ينبغي أن يجعل هدف المجاهدين في المعركة هو جمع الغنائم وأن يأسروا العدوّ حتى يأخذوا فداءه .وإذا كان في القلوب مثل هذه النيّات السيئة فعليهم أن يطهروا قلوبهم منها ،ويعدهم الله بالعفو عمّا مضى فتقول الآية: ( إنّ الله غفور رحيم ) .
هل أن أخذ «الفداء » أمر منطقيٌّ عادل ؟!
قد ينقدح هنا سؤال مهم وهو: كيف ينسجم الفداء قبال إطلاق سراح الأسير وأصول العدالة ؟أو ليس هذا نوعاً من بيع الإِنسان ؟
والجواب على هذا السؤال يتجلى واضحاً حين نعرف أنّ الفداء هو نوع من الضرائب العسكرية ،أو الغرامة الحربية ،إذ أن كل حرب سبب في إهدار كثير من الطاقات الاقتصادية والقوى الإِنسانية ،فالجماعة التي تقاتل من أجل الحق يحق لها أنّ تعوض عن خسائرها بعد الحرب ،وأحد طرق التعويض هو «الفداء » .ومع ملاحظة أن الفداء كان يومئذ يتراوح بين أربعة آلاف درهم عن الأسير الغني ،وألف درهم عن الأسير الفقير ،يتّضح أنّ الأموال التي أُخذت من قريش في هذا الصدد لم تكن كثيرة ،بل لم تكن كافية لسد خسائر المسلمين المالية والإِنسانية في تلك المعركة !
ثمّ بعد هذا كلّه ،فقد ترك المسلمون أموالا كثيرةفي مكّةعند هجرتهم اضطراراً إِلى المدينة ،فكانت هذه الأموال عند أعدائهم من قريش ،وكان للمسلمين الحق أن يعوضوا عن خسائرهم وأموالهم في يوم بدر بالفداء .
كما ينبغي الالتفات إِلى هذه اللطيفة التي أشارت إليها الآية 4 من سورة محمّد( صلى الله عليه وآله وسلم ) ،وهي أنّ مسألة الفداء ليست إلزامية ،فللحكومة الإِسلامية أن تبادل الأسرى متى ما رأت في ذلك مصلحة ،أو أن تمن عليهم فتطلق سراحهم دون تعويض .
والمسألة المهمّة الأُخرى في شأن أسرى الحرب هي موضوع إصلاحهم وتربيتهم وهدايتهم ،ولعل هذا الأمر غير موجود في المذاهب الماديّة ،لكنّه مثار عناية واهتمام أكيد في الجهاد من أجل تحرير الإِنسان وإصلاحه وتعميم الحق والعدل .