/م11
أمّا الآية التالية فتضيف: إنّ في انتصار المؤمنين وهزيمة الكافرين سروراً للمؤمنين ،وإنَّ الله يسدّدهم ( ويذهب غيظ قلوبهم ) .
ويحتمل أن تكون هذه الجملة تأكيداً للجملة السابقة ( ويشفِ صدور قوم مؤمنين ) كما يحتمل أن تكون مستقلةً عنها .وأن تكون الجملة السابقة إشارة إِلى أنّ القلوب التي مرضت وتألمت سنين طوالا من أجل الإِسلام والنّبي الكريم ،شُفيت بانتصار الإِسلام .
وأمّا الجملة الثّانية ( ويذهب غيظ قلوبهم ) فهي إشارة أن أُولئك الذين فقدوا أعزّتهم وأحبّتهم بما لاقوه من تعذيب وحشي من قبل المشركين فأغاظوهم ،سُيقّر الله عيونهم بهلاك المشركين ( ويذهب غيظ قلوبهم ) .
وتُختتم الآية بالقول: ( ويتوب الله على من يشاءُ والله عليم حكيم ) .
كما تشير العبارة الأخيرة ضمناً إِلى إمكانية أن يلج بعضهم باب التوبة ،فينبغي على المسلمين أن يعرفوا أن الله يقبل توبتهم ،فلا يعاملوهم بشدة وقسوة فلا يجوز ذلك .كما أن الجمل بنفسها تحمل البشرى بأنّ مثل هؤلاء سيميلون نحو الإِسلام ويشملهم توفيق الله ،لما لديهم من التهيؤ الروحي والقابليّة .
وقد ذهب بعض المفسّرين أنّ الآيات الأخيرةبصورة عامّة من قبيل الإخبار القرآني بالمغيبات ،وهي من دلائل صدق دعوة النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) لأنّ ما أخبر عنه القرآن قد تحقق فعلا .
ملاحظات
1هناك كلام بين المفسّرين في الجماعة الذين عنتهم الآية ( قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ) من هم ؟!
قال بعضهم: إنّ الآية تشير إلى اليهود ،وإلى بعض الأقوام الذين نازلوا المسلمين وقاتلوهم بعد حين كالفُرس والرُّوم .
وقال بعضهم: هي إشارة إلى كفّار قريش .
وقال بعضهم: بل هي إشارة إلى المرتدين بعد إسلامهم .
إلاّ أنّ ظاهر الآيات يدلّبوضوحعلى أن موضوعها هو جماعة المشركين وعبدة الأصنام الذين عاهدوا المسلمين على عدم القتال والمخاصّة ،إلاّ أنّهم نقضوا عهدهم .
وكان هؤلاء المشركون في أطراف مكّة أو سائر نقاط الحجاز .
كما أنّه لا يمكن القبول بأنّ الآية ناظرة إِلى قريش ،لأنّ قريشاًورئيسهاأبا سفيانأعلنوا إسلامهمظاهراًفي السنة الثامنة بعد فتح مكّة ،والسورة محل البحث نزلت في السنة التاسعة للهجرة .
كما أنّ الاحتمال بأنّ المراد من الآية هو الفرس أو الروم بعيد جدّاً عن مفهوم الآية ،لأنّ الآيةأو الآيات محل البحثتتكلم عن مواجهة فعلية ،لا على مواجهات مستقبلية أضف إلى ذلك فإنّ الفرس أو الروم لم يهمّوا بإخراج الرّسول من وطنه .
كما أنّ الاحتمال بأنّ المراد هم المرتدون بعد الإِسلام ،بعيد غاية البعد ،لأن التأريخ لم يتحدث عن مرتدين أقوياء واجهوا الرّسول ذلك الحين ليقاتلهم بمن معه من المسلمين .
ثمّ إنّ كلمة «أيمان » جمع «يمين » وكلمة «عهد » يشيران إِلى المعاهدة بين المشركين والرّسول على عدم المخاصمة ،لا إلى قبول الإِسلام .فلاحظوا بدقة .
وإذا وجدنا في بعض الرّوايات الإِسلامية أنّ هذه الآية طُبّقَتْ على «النّاكثين » في «معركة الجمل » وأمثالها ،فلا يعني ذلك أن الآيات نزلت في شأنهم فحسب ،بل الهدف من ذلك أنّ روح الآية وحكمها يصدقان في شأن الناكثين ومن هم على شاكلتهم ممن سيأتون في المستقبل .
والسؤال الوحيد الذي يفرض نفسه ويطلب الإِجابة ،هو: إذا كان المراد جماعة المشركين الذين نقضوا عهودهم ،وقد جرى الكلام عليهم في الآيات المتقدمة ،فعلام تعبّر الآية هنا عنهم بالقول: ( وإن نكثوا أيمانهم ) مع أنّهم قد نكثوها فعلا .
والجواب: إنّ المراد من هذه الجملةالمذكورة آنفاًأنّهم لو واصلوا نقضهم أو نكثهم للأيمان ،ولم يتوبوا إِلى رشدهم ،فينبغي مقاتلتهم .ونظير ذلك ما جاء في قوله تعالى: ( اهدنا الصراط المستقيم ) ومفهومها أنّنا نطلب من الله أن يوفقنا لأنّ نسير على الصراط المستقيم وأن تستمّر هدايته إيانا .
والشاهد على هذا الكلام أنّ جملة ( وإن نكثوا أيمانهم ) جاءت في مقابل ( فإن تابوا وأقاموا الصلاة ) أي لا يخلو الأمر من أحد وجهين ،فإمّا أن يتوبوا ويعرضوا عن الشرك ويتجهوا نحو الله ،وإمّا أن يستمروا على طريقهم ونكث أيمانهم .ففي الصورة الأُولى هم إخوانكم في الدين ،وفي الصورة الثّانية ينبغي مقاتلتهم .
2ممّا يسترعي الانتباه أنّ الآيات محل البحث لا تقول: قاتلوا الكفار ،بل تقول: ( فقاتلوا أئمّة الكفر ) وهي إشارة إِلى أن ( القاعدة الجماهيرية ) وعامّة الناس تبع لزعمائهم ورؤسائهم ،فينبغي أن يكون الهدف القضاء على رؤسائهم وأئمتهم ،لأنّهم أساس الضلال والتضليل والظلم والفساد ،فاستأصلوا شجرة الكفر من جذورها وأحرقوها .فمواجهة الكفار لا تجدي نفعاً مادام أئمتهم في الوجود ،أضف إِلى ذلك فإنّ هذا التعبير يُعدّ ضرباً من ضروب النظرة البعيدة المدى وعلو الهمة وتشجيع المسلمين ،إذ عدّ أئمّة الكفر في مقابل المسلمين ،فليواجهوهم فذلك أجدر من مواجهة من دونهم من الكفّار .
والعجيب أنّ بعض المفسّرين يرى أنّ هذا التعبير يعني أبا سفيان وأمثاله من زعماء قريش ،مع أنّ جماعة منهم قتلوا في معركة بدر ،وأسلم الباقي منهم كأبي سفيان بعد فتح مكّةبحسب الظاهروكانوا عند نزول الآية في صفوف المسلمين ،فمقاتلتهم لا مفهوم لها .
واليوم ما يزال هذا الدستور القرآني المهم باقياً على قوته «ساري المفعول » فلكي نزيل الاستعمار والفساد والظلم ،لابدّ من مواجهة الرؤساء والأكابر وأئمّة المنحرفين ،وإلاّ فلا جدوى من مواجهة من دونهم من الأفراد ،فلا حظوا بدقة .
3إنّ التّعبير ب ( إخوانكم في الدين ) الوارد في الآيات المتقدمة ،من ألطف التعابير التي يمكن أن يُعبَّر بها في شأن المساواة بين أفراد المجتمع ،وبيان أوثق العلائق العاطفية ،لأنّ أجلى العلائق العاطفية وأقربها في الناس التي تمثل المساواة الكاملة هي العلاقة ما بين الأخوين .
إلاّ أنّ من المؤسف أن الانقسامات الطبقية والنداءات القومية سحقت هذه الأخوة الإِسلامية التي كان الأعداء يغبطوننا عليها ،ووقف الإِخوان في مواجهة إخوانهم متراصين بشكل لا يُصدق ،وقد يقاتل كلُّ منهما الآخر قتالا لا يقاتل العدوّ عدوه بمثل هذا القتال ،وهذا واحد من أسرار تأخرنا في عصرنا هذا .
4يستفادإجمالامن جملة «أتخشونهم » أنّه كان بين المسلمين جماعة يخافون من الاستجابة للأمر بالجهاد ،إمّا لقوّة العدوّ وقدرته ،أو لأنّهم كانوا يعدوا نقض العهد ذنباً .
فالقرآن يخاطبهم بصراحة أن لا تخافوا من هؤلاء الضعاف ،بل ينبغي أن تخافوا من عصيان أمر الله .ثمّ إن خشيتكم من نكث الإِيمان ونقض العهد ليست في محلها ،فهم الذين نكثوا أيمانهم وهم بدءوكم أوّل مرّة !
5يبدو أنّ جملة ( همّوا بإخراج الرسول ) إشارة إِلى مسألة عزمهم على إخراج الرسول( صلى الله عليه وآله وسلم ) من مكّة ( عند هجرته إِلى المدينة ) بادئ الأمر ،إلاّ أن نياتهم تغيرت وتبدلت إِلى الإقدام على قتله ،إلاّ أنّ النّبي غادر مكّة في تلك الليلة بأمر الله .
وعلى كل حال ،فإنّ ذكر هذا الموضوع ليس على سبيل أنّهم نقضوا عهدهم ،بل هو بيان ذكرى مؤلمة من جنايات عبدة الأصنام ،حيث اشتركت قريش والقبائل الأُخرى في هذا الأمر .أمّا نقض العهد من قبل عبدة الأصنام المشركين فكان واضحاً من طرق أُخرى .
6ممّا يثير الدهشة والتعجب أنّ بعض أتباع مذهب الجبر يستدل على مذهبه بالآية ( قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ) مع أنّنا لو تجردنا عن التعصب لما وجدنا في الآية أدنى دليل على مرادهم ،وهذا يشبه تماماً لو أردنا أن ننجزعملامثلافنمضي إِلى بعض أصدقائنا ونقول له: نأمل أن يصلح الله هذا الأمر على يدك ،فإنّ مفهوم كلامنا هذا لا يعني بأنّك مجبور على أداء هذا الأمر ،بل المراد أنّ الله منحك قدرةً ونية طاهرة ،وبالإِفادة منهما استطعت أن تؤدي عملك باختيارك وبحرية تامّة .