سبب النّزول
هذا حسن لا قبيح !
ذكرت عدّة أسباب متباينة لنزول الآية المذكورة ومنها أنّ الآية نزلت في جماعة من المنافقين كانوا يذكرون النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم )بسوء ،فنهاهم أحدهم وقال: لا تتحدثوا بهذا الحديث لئلا يصل إِلى سمع محمّد فيذكرنا بسوء ويؤلب الناس علينا .فقال له أحدهمواسمه جلاس: لا يهمنا ذلك ،فنحن نقول ما نريد ،وإِذا بلغه ما نقول سنحضر عنده وننكر ما قلناه ،وسيقبل ذلك منا فإنّه سريع التصديق لما يقال له ،ويقبل كل ما يقال من كل أحد ،فهو أُذُن ،فنزلت الآية وأجابتهم .
التّفسير
تتحدّث الآيةكما يفهم من مضمونهاعن فرد أو أفراد كانوا يؤذون النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) بكلامهم ويقولون أنّه أُذن ويصدّق كل ما يقال له سريعاً ( ومنهم الذين يؤذون النّبي ويقولون هو أُذن ) .
«الأذن » في الأصل تطلق على الجزء الظاهر من الحاسة السامعة ( الصيوان ) ،لكنّها تطلق على الأفراد الذين يصغون كثيراً لكلام الناس أو كما يقال: سَمّاع .
هؤلاء المنافقون اعتبروا هذه الصفةوالتي هي سمة ايجابية للنّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) ،والتي يجب توفرها في أي قائد كاملنقطة ضعف في سيرته ومعاملته( صلى الله عليه وآله وسلم ) ،وكأنّهم غفلوا عن أن القائد إِذا أراد أن يحبه الناس لابدّ أن يظهر لهم كل محبّة ولطف ،وأن يقبل عذر المعتذر ما أمكن ،ويستر على عيوبهم ،( إِلاّ أن تكون هذه الصفة الحميدة سبباً لاستغلالها من قبل البعض ) .
من هنا نلاحظ أنّ القرآن قد ردّهم مباشرة ،وأمر النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن يقول لهم بأنّه إِذا كان يصغي لكلامكم ،ويقبل أعذاركم ،أو كما تظنون بأنّه أُذُن ،فإنّ ذلك في مصلحتكم ولمنفعتكم ( قل أُذُن خير لكم ) ،فإنّه بذلك يحفظ ماء وجوهكم وشخصيتكم ،ولا يجرح شعوركم وعواطفكم ،وبذلكأيضاًيسعى لحفظ وحدتكم واتحادكم ومودتكم ،ولو أراد أن يرفع الستار عن أفعالكم القبيحة ،ويفضح الكاذبين على رؤوس الأشهاد ،لضرّكم ذلك وشق عليكم ،وافتضح عدّة منكم ،وعندها سيُغلق أمامهم باب التوبة ممّا يؤدي إلى توغلهم في الكفر والابتعاد عن النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) بعد أن كان من المحتمل هدايتهم .
إِن القائد الرحيم والمحنّك يجب أن يكون مطّلعاً على كل شيء ،لكن لا ينبغي له أن يجابه أفراده بأُمورهم الخاصّة والمجهولة عند الآخرين حتى يتربى من لهم الاستعداد والقابلية وتبقى أسرار الناس في طي الكتمان .
ويحتمل في تفسير الآية أن يراد معنى آخر ،وهو أنّ الله سبحانه وتعالى يقول في جواب هؤلاء الذين يعيبون على النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) إِصغاءه للآخرين: ليس الأمر كما تظنون بأنّه يسمع كل ما يقال له ،بل إِنّه يصغي إِلى الكلام الذي فيه نفعكم ،أي أنّه يسمع الوحي الإِلهي ،والاقتراح المفيد ،ويقبل اعتذار الأفراد إِذا كان هذا القبول في صالح المعتذرين والمجتمع{[1644]} .
ومن أجل أن لا يستغل المتتبعون لعيوب الناس ذلك ،ولا يجعلون هذه الصفة وسيلة لتأكيد كلامهم ،أضاف الله تعالى أنّ النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) يؤمن بالله ويطيع أوامره ،ويصغي إِلى كلام المؤمنين المخلصين ،ويقبله ويرتب عليه الأثر ،( يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ) ،وهذا يعني أن النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان له طريقان وأسلوبان في عمله:
أحدهما: الحفاظ على الظاهر والحيلولة دون هتك الأستار وفضح أسرار الناس .
والثّاني: في مرحلة العمل ،فقد كان( صلى الله عليه وآله وسلم ) في البداية يسمع من كل أحد ،ولا ينكر على أحد ظاهراً ،أمّا في الواقع العملي فإنّه لا يعتني ولا يقبل إلاّ أوامر الله واقتراحات وكلام المؤمنين المخلصين ،والقائد الواقعي يجب أن يكون كذلك فإن تأمين مصالح المجتمع لا يتم إلاّ عن هذا الطريق ،لذلك عبر عنه بأنّه رحمة للمؤمنين ( ورحمة للذين آمنوا ) .
ويمكن أن يطرح هنا سؤال ،وهو أننا نلاحظ في بعض الآيات التعبير عن النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) بأنّه ( رحمة للعالمين ){[1645]} ،لكننا نقرأ هنا أنّه رحمة للمؤمنين ،فهل يتطابق ذلك العموم مع هذا التخصيص ؟
إِلاّ أنّنا إِذا لاحظنا نقطة دقيقة سيتّضح جواب هذا السؤال ،وهي أنّ للرحمة درجات ومراتب متعددة ،فإحداها مرتبة ( القابلية والاستعداد ) ،والأُخرى ( الفعلية ) .
فمثلا: المطر رحمة إِلهية ،أي أنّ هذه القابلية واللياقة موجودة في كل قطرات المطر ،فهي منشأ الخير والبركة والنمو والحياة ،لكن من المسلّم أنّ آثار هذه الرحمة لا تظهر إلاّ في الأراضي المستعدّة ،وعلى هذا فإنّه يصح قولنا: إِنّ جميع قطرات المطر رحمة ،كما يصح قولنا: إِنّ هذه القطرات أساس الرحمة في الأراضي التي لها القابلية والاستعداد لتقبل هذه الرحمة ،فالجملة الأُولى إشارة إلى مرحلة ( الاقتضاء والقابلية ) ،والجملة الثّانية إشارة إِلى مرحلة ( الوجود والفعل ) ،وعلى هذا فإنّ النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) أساس الرحمة لكل العالمين بالقوة ،أمّا بالفعل فهو مختص بالمؤمنين .
بقي هنا شيء واحد ،وهو أنّ هؤلاء الذين يؤذون النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) بكلامهم ويتتبعون أحواله لعلهم يجدون عيباً يشهّرون به يجب أن لا يتصوروا أنّهم سوف يبقون بدون جزاء وعقاب ،فصحيح أن النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) مأمور ،ومن واجبهكقائدأن يقابل هؤلاء برحابة صدر ولا يفضحهم ،لكن هذا لا يعني أنّهم سوف يبقون بدون جزاء ،ولهذا قال تعالى في نهاية الآية: ( والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم ) .