{وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ ( 84 ) وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ( 85 ) وَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَجَاهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُواْ الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُن مَّعَ الْقَاعِدِينَ ( 86 ) رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ( 87 )} .
84 –{وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ ...} الآية .
سبب النزول:
روى الشيخان: عن ابن عمر قال: لما توفي عبد الله بن أبي ،جاء ابنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ،فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه ،فأعطاه ،ثم سأله أن يصلي عليه ؛فقام ليصلي عليه ؛فقام عمر بن الخطاب ،وأخذ بثوبه ،وقال: يا رسول الله ،أتصلي عليه ،وقد نهاك ربك أن تصلي على المنافقين .قال: إنما خيرني الله ،فقال ،{استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة ...} وسأزيده على السبعين ؛فقال عمر: إنه منافق ...!
وجاء في مسنده الإمام أحمد:
ثم صلى النبي صلى الله عليه وسلم على بن أبي ومشى معه ،وقام على قبره حتى فرغ منه .
قال عمر: فعجبت من جرأتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسوله أعلم قال: فوالله ما كان إلا يسيرا حتى نزلت{ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ...} الآية .
قال: فما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد على ذلك منافق ،ولا قام على قبره حتى قبضه الله عز وجل .
وقد أورد الإمام ابن كثير طائفة من الأحاديث النبوية في هذا المعنى .
ضعف الحديث:
ضعّف جماعة العلماء كالقاضي أبي بكر الباقلاني وإمام الحرمين الجويني ،والغزالي ،حديث الصلاة على زعيم المنافقين ؛لمخالفته لظاهر الآية من أوجه هي:
1 – أن الآية نزلت أثناء رجوع النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك ،وابن أبي مات في السنة التي بعدها .
2 – قول النبي صلى الله عليه وسلم:"إن الله خيرني "،يعارض صريح الآية ،بأن الله لن يغفر لهم بسبب كفرهم ،ف أو فيه للتسوية لا للتخيير .
الجمع بين الآية والحديث:
حاول بعض العلماء الجمع بين الآية والحديث ،ومن هؤلاء الزمخشري في تفسير الكشاف فقال: روى: ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم على قبور المنافقين ويدعو لهم ؛فلما مرض رأس النفاق عبد الله بن أبي ،بعث إليه ليأتيه ،فلما دخل عليه قال له النبي:"أهلك حب يهود "فقال عبد الله بن أبي: يا رسول الله ،إنما بعثت إليك لتستغفر لي لا تؤنبني ،وسأله أن يكفنه في شعاره الذي يلي جلده ،ويصلّى عليه .
فلما مات دعاه ابنه عبد الله – وكان مؤمنا صالحا – فقال: يا رسول الله ،أسألك أن تكفنه في بعض قمصانك ،وأن تقوم على قبره ؛حتى لا يشمت به الأعداء .
وعلم النبي صلى الله عليه وسلم أن تكفينه في قميصه لا ينفعه مع كفره ،فلا فرق بينه وبين غيره من الأكفان ،وليكون إلباسه إياه لطفا لغيره .
فقد روى أنه قيل للرسول صلى الله عليه وسلم: لم وجهت إليه قميصك وهو كافر ؟فقال:"إن قميصي لن يغني عنه من الله شيئا ،وإني أؤمل من الله أن يدخل في الإسلام كثير بهذا السبب "؛فيروى أنه أسلم ألف من الخزرج لما رأوا زعيمهم عبد الله بن أبي يطلب الاستشفاء بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم ،وكذلك ترحمه واستغفاره ؛كان للدعاء إلى التراحم والتعاطف ؛لأنهم إذا رأوه يترحم على من يظهر الإيمان وباطنه على خلاف ذلك ؛دعا المسلم على أن يتعاطف على من واطأ قلبه لسانه ،ورآه حتما عليه .
ثم قال الزمخشري في تفسير الكشاف:
فإن قلت: كيف جازت الصلاة على عبد الله بن أبي المنافق ؟
قلت: لم يتقدم نهى عن الصلاة عليهم ،وكانوا يجرون مجرى المسلمين لظاهر إيمانهم ،لما في ذلك من المصلحة .
وعن ابن عباس رضي الله عنه: ما أدري ما هذه الصلاة إلا أني أعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخادع .
تأمل في الموضوع
تفيد روايات متعددة: أن عمر رضي الله عنه كان ميالا إلى عدم الصلاة على المنافقين ؛استنباطا من إشارات غير صريحة في القرآن إلى ذلك .
وجاء في رواية عن ابن عباس: فقال عمر رضي الله عنه: لم تعطي قميصك الرجس النجس ؟؟فقال عليه الصلاة والسلام:"إن قميصي لا يغني عنه من الله شيئا ،فلعل الله أن يدخل به ألفا في الإسلام "وكان المنافقون لا يفارقون عبد الله بن أبي ،فلما رأوه يطلب هذا القميص ،ويرجو أن ينفعه ؛أسلم منهم يومئذ ألف ،وكان صلى الله عليه وسلم رحيما سهلا مألفا محببا وكان ميالا إلى الصلاة على عبد الله بن أبي ؛بناء على الظاهر من إسلامه .
وأخرج أبو يعلى وغيره عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ،أراد أن يصلي على عبد الله بن أبي ؛فأخذ جبريل بثوبه فقال:{ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره ...} الآية .
فهذه الرواية تدل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يصل على عبد الله بن أبي .
وأمام هذا التعارض في الروايات رجح بعض العلماء رواية البخاري ،وجمع بعضهم بين الروايتين فقال: المراد من الصلاة في رواية عمر وابنه: الدعاء ،أو الهم بالصلاة عليه ،ثم منعه جبريل .
مناقب عمر
من مناقب عمر رضي الله عنه: شدته على المشركين والمنافقين ؛فهو صاحب رأى قتل الأسرى في بدر ،وقد أيد الوحي رأيه في أسارى بدر ،وآية تحريم الخمر ،وآية تحويل القبلة ،وآية أمر نساء النبي صلى الله عليه وسلم بالحجاب ،وآية عدم الصلاة على المنافقين ،لهذا قال صلى الله عليه وسلم:"إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه "128 .
وقال صلى الله عليه وسلم:"إنه كان فيما مضى من الناس ملهمون ولو كان في أمتي محدثون لكان عمر "129 .
وقال صلى الله عليه وسلم:"لو لم أبعث لبعثت يا عمر نبيا ".
التفسير:
{ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون} .
هذه الآية استمرار في الحديث عن المنافقين ،وكيفية معاملتهم ؛فقد منعت الرسول صلى الله عليه وسلم من الصلاة على موتاهم ...
والمعنى: تبرأ أيها الرسول من المنافقين ،ولا تصل على أحد منهم إذا مات ولا تقم على قبره ؛لتستغفر له ،أو تدعوا له ؛لأنهم كفروا بالله ورسوله ،فأنكروا وجود الله وتوحيده ،وأنكروا بعثة نبيه ،وماتوا وهم فاسقون ؛خارجون من دين الإسلام ،متمردون على أحكامه ،متجاوزون حدوده وأوامره ونواهيه .
وتفيد الآية: الامتناع عن الصلاة على الكفار ،وكل من عرف نفاقه .
وإن كان سبب نزول الآية: الصلاة على عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين ،إلا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ،ذكر ابن كثير وغيره من المفسرين .