قوله تعالى:{يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ} [ 20] الآية .
بين تعالى في هذه الآية الكريمة: أن الكفار الذين يصدون الناس عن سبيل الله ويبغونها عوجاً ،يضاعف لهم العذاب يوم القيامة ،لأنهم يعذبون على ضلالهم ،ويعذبون أيضاً على إضلالهم غيرهم ،كما أوضحه تعالى بقوله:{الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ} [ النحل: 88] .
وبين في موضع آخر .أن العذاب يضاعف للأتباع والمتبوعين ،وهو قوله في الأعراف{حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ} [ الأعراف:38] الآية .
قوله تعالى:{مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ} [ 20] .
في هذه الآية الكريمة للعلماء أوجه ،بعضها يشهد له القرآن:
الأولوهو اختيار ابن جرير الطبري في تفسيره ،ونقله عن ابن عباس وقتادة: أن معنى{مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ} الآيةأنهم لا يستطيعون أن يسمعوا الحق سماع منتفع ،ولا أن يبصروه إبصار مهتد ،لاشتغالهم بالكفر الذي كانوا عليه مقيمين عن استعمال جوارحهم في طاعة الله تعالى ،وقد كانت لهم أسماع وأبصار .
ويدل لهذا قوله تعالى:{وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَآ أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مِّن شَيءٍ إِذْ كَانُواْ يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} . [ الأحقاف: 26]
الثانيوهو أظهرها عندي: أن عدم الاستطاعة المذكور في الآية إنما هو للختم الذي ختم الله على قلوبهم وأسماعهم ،والغشاوة التي جعل على أبصارهم .
ويشهد لهذا القول قوله تعالى:{خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [ البقرة: 7] ،وقوله:{إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي ءَاذَانِهِمْ وَقْراً} [ الكهف: 75] ونحو ذلك من الآيات .
وذلك الختم والأكنة على القلوب جزاء من الله تعالى لهم على مبادرتهم إلى الكفر وتكذيب الرسل باختيارهم ومشيئتهم كما دلت عليه آيات كثيرة كقوله:{بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} [ النساء: 155] وقوله{فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [ الصف: 5] وقوله{في قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} [ البقرة:10] الآية .وقوله:{وَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ} [ التوبة: 125] الآية وقوله{وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [ الأنعام: 110] الآيةإلى غير ذلك من الآيات .
الثالثأن المعنى ما كانوا يستطيعون السمع أي لشدة كراهيتهم لكلام الرسل على عادة العرب في قولهم: لا أستطيع أن أسمع كذا إذا كان شديد الكراهية والبغض له ويشهد لهذا القول قوله تعالى:{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ في وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ ءَايَاتُنَا} [ الحج:27] وقوله تعالى{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لِهَذَا الْقُرْءَانِ} [ فصلت: 26] الآية وقوله{وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُواْ أَصَابِعَهُمْ في ءَاذَانِهِمْ} [ نوح: 7] الآية .
الرابع: أن «ما » مصدرية ظرفية ،أي يضاعف لهم العذاب مدة كونهم يستطيعون أن يسمعوا ويبصروا ،أي يضاعف لهم العذاب دائماً .
الخامس: أن «ما » مصدرية في محل نصب بنزع الخافض ،أي يضاعف لهم العذاب بسبب كونهم يستطيعون السمع والإبصار في دار الدنيا ،وتركوا الحق مع أنهم يستطيعون إدراكه بأسماعهم وأبصارهم .وقد قدمنا في سورة النساء قول الأخفش الأصغر: بأن النصب بنزع الخافض مقيس مطلقاً عند أمن اللبس .
السادس: أن قوله{مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ} من صفة الأصنام التي اتخذوها أولياء من دون الله ،فيكون متصلاً بقوله{وَمَا كَانَ لَهُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَآءَ} وتكون جملة{يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ} اعتراضية .وتقرير المعنى على هذا القول: وما كان لهم من دون الله من أولياء ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون ،أي الأصنام التي اتخذوها أولياء من دون الله .وما لا يسمع ولا يبصر لا يصح أن يكون ولياً لأحد .
ويشهد لمعنى هذا القول قوله تعالى في الأعراف{أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ ءَاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} [ الأعراف:195] الآية ،ونحوها من الآيات .
وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك: أن الآية الكريمة قد تكون فيها أقوال ،وكلها يشهد له قرآن فنذكر الجميع ،والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى:{مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأعْمَى وَالأصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ} [ 24] الآية .ضرب الله تعالى في هذه الآية الكريمة المثل للكافر بالأعمى والأصم ،وضرب المثل للمؤمن بالسميع والبصير ،وبين أنهما لا يستويان ،ولا يستوي الأعمى والبصير ،ولا يستوي الأصم والسميع .وأوضح هذا المعنى في آيات كثيرة:
قوله{وَمَا يَسْتَوِي الأعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلاَ الظُّلُمَاتُ وَلاَ النُّورُ وَلاَ الظِّلُّ وَلاَ الْحَرُورُ وَمَا يَسْتَوِي الأحْيَآءُ وَلاَ الأمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَآءُ وَمَآ أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن في الْقُبُورِ إِنْ أَنتَ إِلاَّ نَذِيرٌ} [ فاطر: 19-23] .
وقوله:{أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} [ الرعد: 19] .
وقوله:{إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلاَ تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَآءَ إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ} [ النمل: 80] إلى غير ذلك من الآيات .