قوله تعالى:{قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بالليل وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَانِ} .
أمر الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة: أن يقول للمعرضين عن ذكر ربهم:{مَن يَكْلَؤُكُم} أي من هو الذي يحفظكم ويحرسكم{بالليل} في حال نومكم{وَالنَّهَارِ} في حال تصرفكم في أموركم .والكِلاءة بالكسر: الحفظ والحِراسة .يقال: اذهب في كِلاءة الله .أي في حفظه ،واكتلأت منهم: احترست .ومنه قول ابن هرمة:
إنَّ سُلَيمى والله يكلؤها *** ضنَّت بشيء ما كان يَرْزَؤُها
وقول كعب بن زهير:
أنَخْت بَعيري واكْتَلأَت بِعَيْنِه *** وآمرت نفسي أي أمري أفعلُ
و«من » في قوله{مِنَ الرَّحْمَانِ} فيها للعلماء وجهان معروفان: أحدهماوعليه اقتصر ابن كثير: أن «من » هي التي بمعنى بدل .وعليه فقوله{مِنَ الرَّحْمَانِ} أي بدل الرحمان ،يعني غيره .وأنشد ابن كثير لذلك قول الراجز:
جارية لم تلبس المرققا *** ولم تذق من البقول الفستقا
أي لم تذق بدل البقول الفستق .وعلى هذا القول فالآية كقوله تعالى:{أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ} أي بدلها ونظير ذلك من كلام العرب قول الشاعر:
أخذوا المخاض من الفصيل غلبة *** ظلما ويكتب للأمير أفيلا
يعني أخذوا في الزكاة المخاض من بدل الفصيل .والوجه الثانيأن المعنى{مَن يَكْلَؤُكُم} أي يحفظكم{مِنَ الرَّحْمَانِ} أي من عذابه وبأسه .وهذا هو الأظهر عندي .ونظيره من القرآن قوله تعالى:{فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ} أي من ينصرني منه فيدفع عني عذابه .والاستفهام في قوله تعالى:{مَن يَكْلَؤُكُم} قال أبو حيان في البحر: هو استفهام تقريع وتوبيخ .وهو عندي يحتمل الإنكار والتقرير .فوجه كونه إنكارياً أن المعنى: لا كالئ لكم يحفظكم من عذاب الله البتَّة إلاَّ الله تعالى .أي فكيف تعبدون غيره .ووجه كونه تقريريَّاً أنهم إذا قيل لهم: من يكلؤكم ؟اضطروا إلى أن يقروا بأن الذي يكلؤهم هو الله .لأنهم يعلمون أنه لا نافع ولا ضار إلا هو تعالى ،ولذلك يخلصون له الدعاء عند الشدائد والكروب ،ولا يدعون معه غيره ،كما قدمنا الآيات الموضحة لذلك في سورة «الإسراء » وغيرها .فإذا أَقروا بذلك توجه إليهم التوبيخ والتقريع ،كيف يصرفون حقوق الذي يحفظهم باللَّيل والنهار إلى ما لا ينفع ولا يضر .وهذا المعنى الذي أشارت إليه هذه الآية الكريمة: أنه لا أحد يمنع أحداً من عذاب الله ،ولا يحفظه ولا يحرسه من الله ،وأن الحافظ لكل شيء هو الله وحدهجاء مبيناً في مواضع أخر .كقوله تعالى:{لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} على أظهر التفسيرات ،وقوله تعالى:{قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ مِّنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً} ،وقوله تعالى:{قُلْ مَن ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِّنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً 17} ،وقوله تعالى:{قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن في الأرض جَمِيعاً} ،وقوله تعالى:{وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ 88} إلى غير ذلك من الآيات .