{ هُو الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ والنَّهَارَ مُبْصِراً} هذا استدلال على مضمون ما قبله من نفي وجود شركاء له في الخلق والتدبير ، أي هو الذي جعل لكم الوقت قسمين بمقتضى علمه ومشيئته بدون مساعد ولا شفيع ، بل بمحض الحكمة البالغة والرحمة الشاملة:أحدهما الليل ، جعله مظلما لأجل أن تسكنوا فيه بعد طول الحركة والتقلب في الأرض ، وتستريحوا من التعب في طلب الرزق ، وثانيهما النهار ، جعله مضيئا ذا إبصار لتنتشروا في الأرض ، وتقوموا بجميع أعمال العمران والكسب ، والشكر للرب ، فالمبصر هنا معطي الإبصار سببه حسيا كان أول معنويا ، فالأول قوله تعالى:{ و َجَعَلْنَا اللَّيْلَ و النَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ} [ الإسراء:12] الآية ، والثاني قوله في هذه السورة أيضا{ وآتينا ثمود الناقة مبصرة} [ الإسراء:59] أي آية مفيدة للبصيرة والحجة على صدق رسولهم ، ومثله قوله في سورة النمل{ فَلَمَّا جَاءتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ} [ النمل:13] .
وقال قطرب:تقول العرب:أظلم الليل وأبصر النهار وأضاء بمعنى صار ذا ظلمة وذا إبصار وذا ضياء ، وقد تكرر التذكير في التنزيل بآيات الله في الليل والنهار من خلقهما وتقديرهما ومنافع الناس فيهما ، وفي هذه الآية احتباك ، وهو أنه حذف من كل من آيتي الليل والنهار ما أثبت في الأخرى والعكس .
وفي قوله تعالى:{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} مثله ، أي إن فيما ذكر لدلائل بينات ، وآيات أي آيات ، على وحدانيته في الذات والصفات ، لقوم يسمعون ما يتلى عليهم من التذكير بحكمه تعالى ونعمه فيها سماع فقه وتدبر ، ويبصرون ما في الكائنات من السنن الحكيمة إبصار تأمل ، ذكر الآيات السمعية المناسبة لليل الذي قدم ذكره ، وهي تدل على الآيات البصرية المناسبة للنهار وتذكر بها ، وهو أبلغ الإيجاز ، وقد جمع بينهما في مقام الإطناب من سورة القصص بقوله:{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاء أَفَلَا تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ومِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ والنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ ولِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ ولَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [ القصص:7173] وأحسن بذلك الإطناب تفسيرا لما هنا من الإيجاز ، ولكل منهما موقعه من بلاغة الإعجاز .