/م88
{ وقَالَ مُوسَى} بعد أن أعد بني إسرائيل للخروج من مصر إعدادا دينيا دنيويا ، متوجها إلى الله تعالى في إتمام الأمر ، بعد قيامه بما يقدر عليه هو وبنو إسرائيل من الأسباب .
{ رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ ومَلأهُ زِينَةً وأَمْوالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي إنك أعطيت فرعون وأشراف قومه وكبراءهم دون دهمائهممن الصناع والزراع والجند والخدمزينة من الحلي والحلل والآنية والماعون والأثاث والرياش ، وأموالا كثيرة الأنواع والمقادير ، يتمتعون وينفقون منها في حظوظ الدنيا من العظمة الباطلة والشهوات البدنية بدون حساب .
{ رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ} أي لتكون عاقبة هذا العطاء إضلال عبادك عن سبيلك الموصلة إلى مرضاتك باتباع الحق والعدل والعمل الصالح ، ذلك بأن الزينة سبب الكبر والخيلاء والطغيان على الناس ، وكثرة الأموال تمكنهم من ذلك وتخضع رقاب الناس لهم ، كما قال تعالى:{ إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى} [ العلق:6 ، 7] وذلك دأب فراعنة مصر ، به تشهد آثارهم وركازهم التي لا تزال تستخرج من برابيهم{[1731]} ونواويس قبورهم إلى يومنا هذا الذي أكتب فيه تفسير هذه الآيات ، وتحفظ في دار الآثار المصرية ، ويوجد مثلها دور أخرى في عواصم بلاد الإفرنج ملأى بأمثالها .فاللام في قوله:{ ليضلوا} تسمى لام العاقبة والصيرورة ، وهي الدالة على أن ما بعدها أثر وغاية فعلية لمتعلقها ، يترتب عليه بالفعل لا بالسببية ، ولا بقصد فاعل الفعل الذي تتعلق به ، كقوله تعالى في موسى عليه السلام{ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وحَزَنًا} [ القصص:8] ويميز بينها وبين لام كي الدالة على علة الفعل بالقرينة .وجعلها بعضهم هنا منها ، وحملوها على الاستدراج ، أي آتيتهم ذلك لكي يضلوا الناس فيستحقوا العقاب .
وقد يعززه قوله:{ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوالِهِمْ} يقال طمس الأثر وطمسته الريح إذا زال حتى لا يرى أولا يعرف{ ولَوْ نَشَاء لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ} [ يس:66] ، وهو يصدق بالعمى بعدم الانتفاع بها كما سبق قريبا في قوله:{ ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون} [ يونس:43] واتفقوا على أن المراد بالعمى هنا عمى البصيرة لا البصر ، والمعنى هنا ربنا امحق أموالهم بالآفات التي تصيب حرثهم وأنعامهم وتنقص مكاسبهم وثمراتهم وغلاتهم فيذوقوا ذل الحاجة .
{ واشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ} أي اطبع عليها ، وزدها قساوة وإصرارا وعنادا ، حتى يستحقوا تعجيل عقابك فتعاقبهم .
{ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ} هذا جواب للدعاء أو دعاء آخر بلفظ النهي متمم له .
وقد روي أن موسى دعا بهذا الدعاء ، وأمن هارون عليهما السلام كما هو المعتاد ، فاستجاب الله تعالى لهما بقوله .