/م103
{ يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه} أي في الوقت الذي يجيء فيه ذلك اليوم المعين لا تتكلم نفس من الأنفس الناطقة إلا بإذن الله تعالى لأنه يومه الخاص الذي لا يملك أحد فيه قولا ولا فعلا إلا بإذنه ، كما قال:{ يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا} [ النبأ:38] وقال:{ يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له وخشعت الأصوات للرحمان فلا تسمع إلا همسا يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا} [ طه:108 ، 109] وقال الكفار{ هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون} [ المرسلات:35 ، 36] وقال:{ اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم} [ يس:65] الخ ، وفسرت كلمة [ يوم] في الآية بالوقت المطلق ، أي غير المحدود ؛ لأنه ظرف لليوم المحدود الموصوف بما ذكر ، الذي هو فاعل يأتي .
وأراد بعضهم الهرب من جعل يوم ظرفا لليوم ، فقالوا:المعنى يوم يأتي جزاؤه ، أو هوله ، أو الله تعالى ، واستشهدوا للأخير بقوله:{ هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله} [ البقرة:210] ، والشواهد التي أوردناها نص في هذا المقام ، ولا حاجة إلى غير جعل يوم بمعنى وقت أو حين .وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة [ يأت] بحذف الياء اجتزاء عنها بالكسرة ، وهذا هو الموافق لرسم المصحف الإمام ، وهو لغة هذيل ، تقول:ما أدر ما تقول .ونفي الكلام في ذلك اليوم إلا بإذنه تعالى يفسر لنا الجمع بين الآيات النافية له مطلقا والمثبتة له مطلقة .
{ فمنهم شقي وسعيد} أي فمن الأنفس المكلفة التي تجمع فيه شقي مستحق لوعيد الكافرين بالعذاب الدائم ، ومنهم سعيد مستحق لما وعد به المتقون من الثواب الدائم ، ولا يدخل في هذا التقسيم غير المكلفين كالأطفال والمجانين ، وأما من تستوي حسناتهم وسيئاتهم من المؤمنين ، ومن تغلب سيئاتهم منهم ، ويعاقبون عليها في النار عقابا موقوتا ، ثم يدخلون الجنة ، فهم من فريق السعداء ، باعتبار الخاتمة في الدنيا والآخرة ، فالسعداء درجات ، والأشقياء دركات .
روى الترمذي وحسنه ، وأبو يعلى ، وأشهر رواة التفسير عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:لما نزلت{ فمنهم شقي وسعيد} قلت:يا رسول الله فعلام نعمل ؟ على شيء قد فرغ منه ، أو على شيء لم يفرغ منه ؟ قال"بل على شيء قد فرغ منه وجرت به الأقلام يا عمر ، ولكن كل ميسر لما خلق له "وحديث"كل ميسر لما خلق له "رواه أحمد والشيخان وغيرهما ، ولفظ البخاري عن عمران بن حصين رضي الله عنه قلت:يا رسول الله فيم يعمل العاملون ؟ قال: "كل ميسر لما خلق له "وعن علي كرم الله وجهه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان في جنازة فأخذ عودا فجعل ينكت في الأرض فقال: "ما منكم أحد إلا كتب مقعده من الجنة أو من النار "قالوا:ألا تتكل ؟ قال: "اعملوا ، فكل ميسر لما خلق له ".وقرأ:{ فأما من أعطى واتقى}{[1760]} .الخ
ومعناه -الذي غفل عنه ، أو جهله الكثيرون على ظهوره-:إن الله تعالى يعلم الغيب ، وعلمه بأن زيدا يدخل الجنة ، أو النار ، ليس معناه أنه يدخلها بغير عمل يستحقها به بحسب وعده وحكمته ، ولا أنه لا فرق فيما يعمله في الجزاء ، وإنما يعلم الله المستقبل كله بجميع أجزائه وأطرافه ، ومنه عمل العاملين وما يترتب على كل عمل من الجزاء بحسب وعده ووعيده في كتابه المنزل وكتابته للمقادير ، ولا تناقض ولا تعارض بينهما ، ونحن لا نعلم الغيب ، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم علمنا ما نعلم به ما سيكون في الجملة ، وهو أن الجزاء بالعمل ، وأن كل إنسان ميسر له ، ومسهل عليه ما خلقه الله لأجله من سعادة الجنة وشقاوة النار ، وأن ما وهبه للإنسان من العزم والإرادة يكون له من التأثير في تربية النفس ما يوجهها به إلى ما يعتقد أن فيه سعادته .ثم بين جزاء الفريقين بالتفصيل فقال .