أول الجزء الثاني عشر في المصاحف
{ وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل من كتاب مبين ( 6 ) وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين ( 7 )}
/م6
{ وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها} الدب والدبيب الانتقال الخفيف البطيء حقيقة كدبيب الطفل والشيخ المسن والعقرب والجراد أو بالإضافة كدبيب الجيش ، أو مجازا كدبيب السكر والسم في الجسم ، والدابة اسم عام يشمل كل نسمة حية تدب على الأرض زحفا أو على قوائم ثنتين فأكثر ، قال تعالى:{ والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع ، يخلق الله ما يشاء} [ النور:45] أي مما تعلمون ومما لا تعلمون مما يدب على الأرض ومما يطير في الهواء ومما يسبح في البحار والأنهار ، وغلبة لفظ الدابة على ما يركب من الخيل والبغال والحمير عرف لا لغة ، ورزق الدابة غذاؤها الذي تعيش به .
والمعنى:ما من دابة من أنواع الدواب في الأرض إلا على الله رزقها على اختلاف أنواعها وأنواعه ، فمنها الجنة التي لا ترى بالأبصار ، وصغار الحشرات والهوام ، وضخام الأجسام ، والوسطى بين الكبير والصغير ، وأغذية كل نوع مختلفة من نباتية وحيوانية ، وقد أعطى كلا منها خلقه المناسب لمعيشته ، ثم هداه إلى تحصيل غذائه بغريزته ، فمنهم ما خلق له خراطيم يمص بها غذاءه من النبات أو دم الحيوان ، وأعطاها من القوة ما إن خرطوم البعوضة الدقيق ليخترق جلد الإنسان وما هو أكثف منه من جلود الحيوان ، ومنها ما خلق له مناقير تلتقط الحبوب ، ومنها ما يمضغ النبات بأسنانه مضغا ، وما يبلع الحشرات والطيور والأنعام بلعا ، وما له مخالب يمزق بها اللحوم ، وما له براثن يقتل بها كبار الجسوم ، وتفصيل هذا له كتب خاصة من قديمة وحديثة ، ولله تعالى حكم في خلقها وغذائها عجيبة ، فإن خفي عليك أمر تغذي الحيات والسنانير ونحوها من خشاش الأرض وصغارها ، وتغذي الأفاعي الكبرى وسباع الوحش والطير من كبارها ، فأول ما ينبغي لك أن تفكر فيه من حكمتها ، أنه لولا ذلك لضاقت الأرض ذرعا بكثرة أحيائها ، أو لأنتنت من كثرة أمواتها ، وإذا أردت زيادة العلم بها وبحكمتها فعليك بالمصنفات المدونة فيها ، وقد فتحت هذه الآية وأمثالها لك أبوابها ، وأرشدتك إلى تطلابها .
ولا يشكلن عليك التعبير عن كفالة الله لرزقها بقوله [ على] وما قيل من دلالتها على الوجوب مع قول المتكلمين إنه لا يجب عليه تعالى شيء ، فإن الممنوع أن يجب عليه تعالى شيء بإيجاب موجب ذي حكم أو سلطان يطالبه به ويحاسبه عليه ، فهذا محال عقلا وشرعا ، وأما ما أوجبه الله تعالى من النظام وسنن التدبير العام للمخلوقات بمقتضى علمه وحكمته ومشيئته ، ونفذه بقدرته واختياره في خليقته ، فهو حكمه وقضاؤه وقدره وبسلطانه ، لا حكم عليه بسلطان غيره ، وهو كمال مطلق لا شائبة للنقص فيه .
ولا يشكلن عليك فيها أيضا أن يكون في كل نوع من هذه الدواب حتى الإنسان أفراد قد تضيق في وجوههم أبواب الرزق حتى يقضي بعضهم جوعا ، فليس معناها أن الله تعالى قد كفل لكل دابة من كل نوع أن يخلق لها ما تغتذي به ، ويوصله إليها بمحض قدرته ، سواء أطلبته بباعث غريزتها أو ما يهديها إليه العلم من أسباب كسبها أم لا ؟ وإنما معناها ما فسرناها به من خلقه تعالى لكل منها الرزق الذي تعيش به ، وأنه سخره لها وهداها إلى طلبه وتحصيله ، كما قال:{ ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى} [ طه:50] وبهذا تعلم جهل بعض العباد والشعراء فيما زعموه من أن الكسب وعدمه سواء ، كقول بعض الخياليين الجاهلين ، المتواكلين غير المتوكلين:
جرى قلم القضاء بما يكون فسيان التحرك والسكون
جنون منك أن تسعى لرزق ويرزق في غشاوته الجنين
فهذا الشاعر أحق بصفة الجنون ممن يصفهم بها ، فإن ما جرى به القضاء منه ما هو مجهول للناس ، ومنه ما علم نوعه بالتجارب والاختبار ، ويعبر عنه بالنواميس والسنن ، ومنها أن الحركة والسكون لكل منهما آثار ، فما هما سيان في ذاتهما ، ولا في آثارهما ونتائجهما ، وأن ما قضاه وقدره من رزق الجنين في غشاوته بدم حيض أمه ، غير ما قضاه وقدره من رزق من خاطبهم بقوله:{ هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه} [ الملك:15] وبغيره من آيات التسخير والتكليف .
ومن العجيب أن يستدل أحد المفسرين الأذكياء على هذا الجهل بأثر موضوع ، ويستحسن في موضوعه خيال ابن أذينة الشاعر المخدوع:
لقد علمت وما الإشراف من خلقي***إن الذي هو رزقي سوف يأتيني{[1737]}
أسعى إليه فيعييني تطلبه***ولو أقمت أتاني لا يعييني
ثم يقول:وقد صدقه الله تعالى في ذلك يوم وفد على هشام فقرعه بقوله هذا ، فرجع إلى المدينة فندم هشام على ذلك وأرسل بجائزته إليه ، ثم أورد [ أي المفسر] في معناه قول من اعترف بأنه ألغى أمر الأسباب جدا إذ قال:
مثل الرزق الذي تطلبه ***مثل الظل الذي يمشي معك
أنت لا تدركه متبعا***وإذا وليت عنه تبعك
وقفى عليه –أعني المفسر- بقوله هو:وبالجملة ينبغي الوثوق بالله وربط القلب به سبحانه ، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن اه .
وأقول إن هذه الجملة حق وضع موضع الباطل ، ولكن هذا الشعر أوغل في الجهل الباطل مما سبقه ، فإنه جعل الكلام في الرزق المطلوب ، لا في الرزق المكتوب ، وجعل اتباعه بالسعي والطلب مانعا من إدراكه ، والتولي عنه بالقعود والكسل ، والتمني دون العمل ، من الضرورات المقتضية لنيله ، فيكون تأييد زعمه أو تقريبه بما ينبغي بل بما يجب من الوثوق بالله وربط القلب به والإيمان بمشيئته ، من ربط العلم بالجهل ، وتأييد الباطل بكلمة الحق فالثقة بالله تعالى والإيمان بمشيئته لا يصحان مع الجهل بمعناهما ومواضع تعلقهما ، وقد علم بنصوص القرآن وبسنن الله تعالى في الخلق وأسباب الرزق ، أن مشيئته تعالى لا تكون إلا بمقتضى سننه في ارتباط الأسباب بالمسببات وحكمته فيها كما فصلناه مرارا في مواضعه من هذا التفسير ، والجهل بهذا مما أفسد على المسلمين دنياهم ودينهم ، وأضاع جل ملكهم ، وجعل جماهيرهم عالة على غيرهم .
{ ويعلم مستقرها ومستودعها} أي وما من دابة في الأرض إلا ويعلم الله مستقرها حيث تستقر وتقيم ، ومستودعها حيث تكون مودعة إلى حين ، فهو يرزقها في كل حال بحسبه وقد بينا معنى الكلمتين في اللغة وما ورد في تفسيرهما من الآثار في تفسير{ هو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع} [ الأنعام:98] فراجعها إن شئت في الطبعة الثانية للجزء السابع من التفسير ، وقد لخص البيضاوي جملة الأقوال في مستقرها ومستودعها كعادته بقوله:أماكنها في الحياة والممات أو الأصلاب والأرحام أو مساكنها من الأرض حين وجدت ومودعها من المواد والمقار حين كانت بعد بالقوة .
{ كل في كتاب مبين} أي كل واحد من الدواب وأرزاقها ومستقرها ومستودعها ثابت مرقوم في كتاب مبين ولوح محفوظ ، كتب الله فيه مقادير الخلق كلها فهو عنده تحت العرض كما ثبت في الصحيح .وقد بينا ما ورد في هذا الكتاب مجملا في تفسير{ وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء} [ الأعراف:38] ثم مفصلا في تفسير آية مفاتح الغيب وهي 59 من هذه السورة [ الأنعام] فراجعها في ج7 أيضا .