التّفسير
جميع الأحياء ضيوف مأدبته:
الآية السابقة أشارت إلى سعة علم الله وإِحاطته بالسر وما يخفون وما يعلنون ،والآية محل البحث تُعدّ دليلا على تلك الآية المتقدمة ،فإِنّها تتحدث عن الرازق لجميع الموجودات ولا يمكن يتمّ ذلك إلاّ بالإحاطة الكاملة بجميع العالم وما فيه ..
تقول الآية ( وما من دابة في الأرض إلاّ على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها ) ويعلم تقلّبها وتنقلها من مكان لآخر ،وحيثما كانت فإِنّ الرزق يصل إِليها منه .
وهذه الحقائق مع جميع حدودها ثابتة في كتاب مبين ولوح محفوظ في علم الله ( كلُّ في كتاب مبين ) .
ملاحظات
1بالرغم من أنّ كلمة «دابّة » مشتقة من مادة «دبيب » التي تعني السير ببطء وبخطى قصيرة ،ولكنّها من الناحية اللغوية تشمل كل حيوان يتحرك في سيره ببطء أو بسرعة ،فنرى كلمة الدابة تطلق على الفرس وعلى كل حيوان يركب عليه ،وواضح أنّ الكلمة في هذه الآيةمحل البحثتشمل جميع الحيوانات الموجودة على سطح الأرض بما فيها الحيوانات التي تدبّ في سيرها ..
2«الرزق »: هو العطاء المستمر ،ومن هنا كان عطاء الله المستمر للموجودات رزقاً .وينبغي الالتفات إلى أن مفهوم الرزق غير منحصر في الحاجات المادية ،بل يشمل كل عطاء ماديّ أو معنوي .ولذلك نقول مثلا: «اللّهم ارزقني علماً كاملا » أو نقول: «اللّهم ارزقني الشهادة في سبيلك » .
والظاهر أنّ المراد من الرزق في هذه الآية الرزق المادي ،ولكن إِرادة المفهوم العام الذي يندرج تحته الرزق المعنوي غير بعيد ..
3«المستقر »في الأصلتعني المقّر ،لأن جذر هذه الكلمة في اللغة مأخوذ من «قرّ » على وزن «حرّ » وتعني كلمة القرّ البرد الشديد الذي يجعل الإِنسان والموجودات الأُخرى يركنون إلى بيوتهم ،ومن هنا جاءت بمعنى التوقف والسكون أيضاً .
و «المستودع » و «الوديعة » من مادة واحدة ،وهاتان الكلمتان في الأصل تعنيان «إطلاق الشيء وتركه » ولذلك تطلق عليه الأُمور غير الثابتة التي ترجع إلى حالتها الطبيعية ،فُيطلق على كل أمر غير ثابت «مستودع » وبسبب رجوع الشيء إلى صاحبه الأصلي وتركه محله الذي هو فيه يسمى ذلك الشيء «وديعة » أيضاً .
فالآية أنفة الذكر تقول: لا ينبغي التصور أن الله سبحانه يرزق الدواب التي تستقر في أماكنها فحسب ،بل هي حيث ما كانت وفي أي ظرف من الظروف تكون فإِنّه تعالى يوصل إِليها أرزاقها ،لأنّه يعلم أماكن استقرارها ،وكذلك يعلم جميع المناطق التي تنتقل إليها وترحل عنها من حيوانات بحرية مهولة الحجم ،إلى أصغر الكائنات المجهرية ،فإِنّه تعالى يرزق كلا منها بحسب حاجته وحاله .
وهذا الرزق ملحوظ بحيث يناسب حال الموجودات من حيث الكمية والكيفية ،وهو مطابق تماماً لمقدار الحاجة والرغبة ،حتى غذاء الجنين الذي في رحم أُمّه يتفاوت كل شهر عن الشهر السابق في النوعية والكمية ،بل كل يوم عن اليوم السابق بالرغم ممّا يبدو من أن الدم نوع واحد لا أكثر .وكذلك الطفل في مرحلة الرضاعة حيث يبدو أن غذاءه من نوع واحد ،لكن تركيب هذا الغذاء أو اللبن يختلف من يوم لآخر .
4«الكتاب المبين » معناه المكتوب الواضح البيّن ،ويشير إلى علم الله الواسع ،وقد يعبر عنه أحياناً باللوح المحفوظ أيضاً .
ويحتمل أن يكون هذا التعبير إشارة إلى أنّه لا ينبغي لأحد أن يهتم لرزقه أقلّ اهتمام ،أو يحتمل سقطوا اسمه وسهمه من القلم ،لأنّ أسماء الجميع مثبتة في ( كتاب مبين ) كتاب أحصى الجميع بجلاء ووضوح !
تقسيم الأرزاق والسعي من أجل الحياة !
هناك أبحاث مهمّة في مسألة «الرزق » ،ونأخذ بنظر الاعتبارهناقسماً منها: 1«الرزق »كما قلنا آنفاًيعني في اللغة العطاء المستمر والدائم ،وهو أعم من أن يكون رزقاً ماديّاً أو معنوياً ..فعلى هذا كل ما يكون فيه نصيب للعباد من قبل الله وينتفعون منهمن مواد غذائية ومسكن وملبس أو علم وعقل وفهم وإِيمان وإِخلاصيسمى رزقاً ،ومن ظنّ أن مفهوم الرزق خاص بالجوانب المادّية لم يلتفت إلى موارد استعماله في القرآن الكريم بدقة ..فالقرآن يتحدث عن الشهداء في سبيل الله بأنّهم ..( أحياء عند ربّهم يرزقون ){[1762]} .
وواضح أن رزق الشهداءفي عالم البرزخليس نعمّا مادية ،بل هو عبارة عن المواهب المعنوية التي يصعب علينا تصوّرها في هذه الحياة المادية .
2مسألة تأمين الحاجات بالنسبة للموجودات الحيةوبتعبير آخر تأمين رزقهامن المسائل المثيرة التي تنكشف أسرارها بمرور الزمان وتَقدُّم العلم ..وتظهر كل يوم ميادين جديدة تدعو للتعجب والدهشة .
كان العلماء في الماضي يتساءلون فيما لو كان في أعماق البحار موجودات حيّة ،فمن أين يتم تأمين غذائها ؟!إِذْ أنّ أصل الغذاء يعود إلى النباتات والحشائش ،وهي تحتاج إلى نور الشمس ،ولكن على عمق 700 متر فصاعداً لا وجود لنور الشمس أبداً ،بل ليل أبدي مظلم يلقي ظلاله ويبسط أسداله هناك .
ولكن اتّضح بتقدم العلم أن نور الشمس يُغذّي النباتات المجهرية في سطح الماء وبين الأمواج ،وحين تبلغ مرحلة النضج تهبط إلى أعماق البحر كالفاكهة الناضجة ،وتنظم إلى الأرزاق الإلهية للأحياء في تلك الأعماق ،مائدة نعمة الله للموجودات الحية تحت الماء!
ومن جهة أُخرى فهناك طيور كثيرة تتغذى من أسماك البحر ،منها طيور تطير في الليل وتهبط إلى البحر كالغواص الماهر وعن طريق أمواج رادارية خاصّة تخرج من آنافها تعرف صيدها وتصطاده بمنقارها .
ورزق بعض أنواع الطيور يكون مُدّخراً بين ثنايا أسنان حيوانات بحرية كبيرة هذا النوع من الحيوانات بعد أن يتغذى من حيوانات البحر ،تحتاج أسنانه إلى «منظف طبيعي » فيأتي إلى ساحل البحر ويفتح فمه الواسع فتدخل هذه الطيور التي أُدّخر رزقها في فم هذا الحيوان الضخمدون وحشة ولا اضطرابوتبحث عن رزقها بين ثنايا أسنان هذا الحيوان الكبير ،فتملأ بطونها من جهة ،وتريح الحيوان الذي تزدحم بين أسنانه «هذه الفضلات » من جهة أُخرى ..وحين تخرج الطيور وتطير في الفضاء يطبق هذا الحيوان البحري فمه بكل هدوء ويعود إلى أعماق البحر .
طريقة إِيصال الرزق من الله تعالى إلى الموجودات المختلفة مذهلة ومحيرة حقّاً .من الجنين الذي يعيش في بطن أُمّه ولا يعلم أحد عن أسراره شيئاً ،إلى الحشرات المختلفة التي تعيش في طيّات الأرض ،وفي الأشجار وعلى قمم الجبال أو في أعماق البحر ،وفي الأصداف ..جميع هذه الموجودات يتكفل الله برزقها ولا تخفي على علمه ،وكما يقول القرآن (...على الله رزقها ويعلم مستقرّها ومستودعها ) .
الطريف في الآيات آنفة الذكر أنّها تعِّبُر عن الموجودات التي تطلب الرزق ب «الدّابّة » وفيها إِشارة لطيفة إلى العلاقة بين موضوع «الطاقة » و«الحركة » .ونعلم أنّه حيثما تكن حركة فلابدّ لها من طاقة ،أيْ ما يكون منشأً للحركة ،والقرآن الكريم يبيّنفي الآيات محل البحثأنّ الله يرزق جميع الموجودات المتحركة ،وإذا ما توسعنا في معنى الحركة فإنّ النباتات تندرج في هذا الأمر أيضاً ،لأنّ للنباتات حركة دقيقة وظريفة في نموها ،ولهذا عدّوا في الفلسفة الإسلامية موضوع «النمو » واحداً من أقسام الحركة ...
3هل أنّ رزق كلّ أحد مقدر ومعين من أوّل عمره إلى آخره ،وهل أنّه يصل إليه شاء أم أبى ؟!أم أنّ عليه أن يسعى في طلبه ؟
يظنّ بعض الأفراد السذّج استناداً إلى الآية آنفة الذكر ،وإلى بعض الرّوايات التي تذكر أنّ الرزق مقدر ومعين ،أنّه لا داعي للسعي من أجل الرزق والمعاش ،فإِنّه لابدّ من وصول الرزق ،ويقول بكل بساطة: إِنّ من خلق الأشداق قدّر لها الأرزاق .
إِنّ سلوك مثل هؤلاء الأفراد الذين لاحظّ لهم من المعرفة الدينية يعطي ذريعة إلى الأعداء حيث يدّعون أن الدين أحد عوامل الركود الاقتصادي وتقبل الحرمان وإماتة النشاطات الإِيجابيّة في الحياة ،فيقول مثلا: إذا لم تكن الموهبة الفلانية من نصيبي فإِنّها لم تكن من رزقي قطعاً ..فلو كانت من نصيبي لوصلتني حتماً من دون تكلف عناء الكسب .وبهذا يستغل المستعمرون هذه الفرصة ليحرموا الكثير من الخلق التمتع بأسباب الحياة ...في حين أن أقل معرفة بالقرآن والأحاديث الإِسلامية تكفي في بيان أنّ الإِسلام يعدّ أساس أي استفادة مادية ومعنوية للإِنسان هو السعي والجد والمثابرة ،حتى أنّنا نجد في القرآن جملة بمثابة الشعار لهذا الموضوع ،وهي الآية الكريمة ( ليس للإِنسان إلاّ ما سعى ) .
وكان أئمّة المسلمينومن أجل أن يسنّوا للآخرين نهجاً يسيرون عليهيعملون في كثير من المواقع أعمالا صعبة ومجهدة .
والأنبياء السابقونأيضاًلم يُستثنوا من هذا القانون ،فكانوا يعملون على الاكتساب ،من رعي الأغنام إلى الخياطة إلى نسج الدروع إلى الزراعة .فإذا كان مفهوم الرزق من الله أن نجلس في البيت وننتظر الرزق ،فما كان ينبغي للأنبياء والأئمّةالذين هم أعرف بالمفاهيم الدينيةأن يسعوا هذا السعي إلى الرزق !
وعلى هذا نقول: إِنّ رزق كل أحد مقدّر وثابت ،إلاّ أنّه مشروط بالسعي والجد ،وإذا لم يتوفر الشرط لم يحصل المشروط .وهذا كما نقول: إِن لكلّ فرد أجلا ومدة من العمر .ولكن من المسلم والطبيعيّ أن مفهوم هذا الكلام لا يعني أنّ الإِنسان حتى لو أقدم على الانتحار أو أضرب عن الطعام فإِنّه سيبقى حيّاً إلى أجل معيّن!!إِنّما مفهوم هذا الكلام أن للبدن استعداداً للبقاء إلى مدّة معينة ولكن بشرط أن يراعي الظروف الصحيّة وأن يبتعد عن الأخطار ،وأن يجنّب نفسه عمّا يكون سبباً في تعجيل الموت .
المسألة المهمّة في هذا المجال أنّ الآيات والرّوايات المتعلقة بتقدير الرزقفي الواقعبمثابة الكابح للأشخاص الحريصين وعبّاد الدنيا الذين يلجون كل باب ،ويرتكبون أنوا ع الظلم والجنايات ،ويتصورون أنّهم إذا لم يفعلوا ذلك لم يؤمنوا حياتهم !
إِنّ آيات القرآن والأحاديث الإِسلامية تحذر هذا النمط من الناس ألاّ يمدّوا أيديهم وأرجلهم عبثاً ،وألاّ يطلبوا الرزق من طرق غير مشروعة ولا معقولة ،بل يكفي أن يسعوا لتحصيل الرزق عن طريق مشروع ،والله سبحانه يضمن لهم الرزق فالله الذي لم ينسهم في ظلمة الرحم .
الله الذي تكفّل رزقهم أيّام الطفولة حيث هيأ لهم أثداء الأمّهات
الله الذي جعل الأب يسعى من الصباح إلى الليل ليهيئ لهم الغذاء بكل عطف وشفقةبعد أن أنهوا مرحلة الرضاعةوهو مسرور بالتعب من أجلهم ...
أجل ،هذا الرّب الرحيم كيف يمكن أن ينسى الإِنسان إذا ما كبر ووجد القدرة على العمل والكسب .
تُرى هل يجيز الإِيمان والعقل أن يلجأ الإِنسان إلى الظلم والإِثم والتجاوز على حقوق الآخرين ويحرص على غصب حقوق المستضعفين بمجرّد أنّه يظن عدم توفر رزقه ؟
وبالطبع لا يمكن أن ننكر أن بعض الأرزاق تصل إلى الإِنسان سعى لها أم لم يسع .فهل يمكن أن ننكر أن نور الشمس يضيء في بيتنا من دون سعينا ،وأن المطر والهواء يصلان إِلينا دون سعي منّا ؟
وهل يمكن أن ننكر أنّ العقل والفكر والاستعداد المذخور فينا من أوّل يوم وجودنا لم يكن بسعينا ؟!
ولكن هذه المواهب التي تنقلها إِلينا الريحكما يقالأو بتعبير أصحّ هذه المواهب التي وصلتنا بلطف الله ومن دون سعينا ،إذا لم نحافظ عليها بالجد والسعي بطريقة صحيحة فستضيع من أيدينا ،أو أنّها ستبقى بلا أثر !
هناك كلام معروف منقول عن الإِمام علي( عليه السلام ) في شأن الرزق فيقول «واعلم يا بني أن الرزق رزقان ،رزق تطلبه ورزق يطلبك »{[1763]} وفي هذا الكلام إِشارة إلى هذه الحقيقة .
كما لا ينكر أن بعض موارد الرزق لا يأتي تبعاً لشيء ظاهر وملموس ،بل يصلنا على أثر سلسلة من الاتفاقات والمصادفات ،هذه الحوادث وإِن كانت في نظرنا مصادفات ،إلاّ أنّها في الواقع وفي نظام الخلق قائمة على حساب دقيق .ولاشك أن حساب هذا النوع من الرزق منفصل عن الأرزاق التي تأتي تبعاً للجد والسعي ،والكلام آنف الذكر يمكن أن يشير إلى هذا المطلب أيضاً .
ولكن على كل حالفإِن النقطة الأساسية هنا أنّ جميع التعاليم الإِسلامية تأمرنا أن نسعى أكثر فأكثر لتأمين نواحي الحياة المادية والمعنوية ،وأن الفرار من العملبزعم أن الرزق مقسوم وأنّه آت لا محالةغير صحيح !..
4في الآيات المتقدمةالتي هي محل البحثإِشارة إلى «الرزق » فحسب ،وبعدها ببضعة آيات يأتي التعبير عن التائبين والمؤمنين ويشار فيها إلى «المتاع الحسن » .
وبالموازنة والمقارنة بين هذين الأمرين يدلنا هذا الموضوع على أن الرزق معدّ لكل دابة من إنس وحشرات وحيوانات مفترسة ...الخ .وللمحسنين والمسيئين جميعاً !...إِلاّ أن «المتاع الحسن » والمواهب الجديرة والثمينة خاصّة بالمؤمنين الذين يطهرون أنفسهم من كل ذنب وتلوّث بماء التوبة ،ويتمتعون بنعم الله في مسير طاعته ،لا في طريق الهوى والهوس !