ثم ذكر علة هذا الكفر وسببه وبين فساد رأيهم فيه بقوله{ بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكون بما أنزل الله} أي بئس شيئا اشتروا به أنفسهم هو كفرهم بما أنزل الله مصدقا لما معهم ، كما كانوا ينتظرون .شرى الشيء واشتراه يستعمل كل منهما بمعنى باع الشيء ، وبمعنى ابتاعه ، لأن الحرف يدل على المعاوضة .وقد ذهب جمهور المفسرين إلى أن"اشتروا "هنا بمعنى باعوا أي إنهم بذلوا أنفسهم وباعوها بما حرصوا عليه من الكفر بغيا وحسدا للنبي ، وحبا في الرياسة واعتزازا بالجنسية ، وبما كان لكل من الرؤساء والمرءوسين من المنافع المتبادلة في المحافظة عليها ، فهذا كله يعد ثمنا لأنفسهم التي خسروها بالكفر حتى كأنهم فقدوها كما يفقد البائع المبيع .وذكر ابن جرير وجها آخر وهو أن"اشتروا "هنا بمعنى ابتاعوا ، أي إنهم جعلوا أنفسهم ثمنا للكفر الذي ذكرت علته آنفا .وفيه من الزيادة على معنى المعاوضة في الوجه الأول أنهم قد أنقذوا أنفسهم بذلك الكفر ، أي أنهم يزعمون ذلك ويدعونه في الظاهر ، وإن كانوا في الباطن قد عرفوا أن ما جاءهم هو الحق الذي كانوا ينتظرون ، وأنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ولكنهم يكتمون .
وقد فهم مما تقدم معنى قوله تعالى{ بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده} فهو تعليل لكفرهم لا لشرائهم ، أي كفروا به لمحض البغي الذي أثاره الحسد كراهة أن ينزل الله الوحي من فضله بمقتضى مشيئته ، وأي بغي أقبح من بغي من يريد أن يحجر على فضل الله ويفيد رحمته فلا يرضى منه أن يجعل الوحي في آل إسماعيل كما جعله في آل أخيه إسحاق ؟ قرأ ابن كثير وأبو عمرو ( ينزل ) بالتخفيف من الإنزال والباقون بالتشديد من التنزيل .وأما قوله{ فباءوا بغضب على غضب} فهو الغضب الذي استوجبوه حديثا بالكفر بالنبي صلى الله عليه وسلم فوق ذلك الغضب الذي لحقهم من قبل بإعنات موسى عليه السلام والكفر به ، وقد ذكر في قوله:{ 113 وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله} ثم توعدهم بعد الغضب المزدوج فقال{ وللكافرين عذاب مهين} أي مقرون بالإهانة والإذلال ، وبذلك صار بمعنى الآية السابقة ، فكأن الجزاء واحد تكرر بتكرر الذنب .وقال{ وللكافرين} ولم يقل ( ولهم ) لما في المظهر من بيان التعليل بالوصف الذي سجله عليهم كما تقدم آنفا .وهذا العذاب مطلق يشمل عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، وقد تقدم أن ذنوب الأمم تتبعها عقوبتها في الدنيا لأنها أثر طبيعي لها ، وإنما جعلها الله كذلك لتكون عبرة يتأدب المتأخرون بما أصاب منها المتقدمين .وكذلك الحال في عقوبة الآخرة بالنسبة إلى الأفراد ، فإن عذاب كل شخص إنما يكون بحسب تأثير الجهل في عقله وفساد الأخلاق وسوء الأعمال في نفسه .
اعتذر بعض اليهود في عصر التنزيل عن عدم الإيمان به بأن قلوبهم غلف لم تفهم الدعوة ولم تعقل الخطاب ، فرد الله تعالى عليهم ببيان السبب الحقيقي في ترك الإيمان ، وما استحقوه عليه من الغضب والهوان .
/خ91