/م12
بعد هذا القول الذي أمر الله به رسوله للتذكير بأنه الرب المالك لكل شيء المتصرف بالفعل التدبير في كل شيء حتى دقائق الأشياء والأمور وخفاياها ، وأن تصرفه هذا عن علم محيط لا يعزب عنه مثال ذرة ولا دبيب نملة ، أمره بقول آخر بين فيه ما يستلزمه ما قبله من وجوب ولايته تعالى وحده والتوجه إليه دون سواه في كل ما هو فوق كسب البشر ، والاعتماد على توفيقه فيما هو من كسبهم ، ولا يتم به المراد بمحض سعيهم فقال:{ قل أغير الله أتخذ وليا} .الولي الناصر ومتولي الأمر المتصرف فيه ، والاستفهام هنا لإنكار اتخاذ غير الله وليا لا لإنكار اتخاذ الولي مطلقا ولهذا لم يقل:أأتخذ وليا غير الله ، ولا:أأتخذ غير الله وكيلا .ومثله{ أفغير الله تأمرون أعبد أيها الجاهلون} وإنما يتحقق اتخاذ غير الله وليا في صورة واحدة وهو أن يطلب من غيره النصر أو غير النصر من ضروب التصرف في النفع والضر فعلا ومنعا فيما هو فوق كسب ذلك الغير وتصرفه الذي منحه الله لأبناء جنسه ، ولذلك فسر الولي بالمعبود في هذا المقام ، وأما تناصر المخلوقين وتولي بعضهم لبعض فيما هو من كسبهم العادي فلا يدخل في عموم اتخاذ غير الله وليا أو اتخاذهم أولياء من دون الله .فقد أثنى الله تعالى على المؤمنين بأن بعضهم أولياء بعض . وبين أيضا أن الكفار بعضهم أولياء بعض .وقد تقدم بيان هذا من قبل .
وقد كان المشركون من الوثنيين ومن طرأ عليهم الشرك من أهل الكتاب يتخذون معبوداتهم وأنبياءهم وصلحائهم أولياء من دون الله تعالى بمعنى أنهم بندائهم ودعائهم والتوجه إليه والاستغاثة بهم يشفعون لهم عند الله تعالى في قضاء حاجتهم من نصر على عدو وشفاء من مرض وسعة في رزق وغير ذلك ، فكان هذا عبادة منهم لهم وجعلهم شركاء لله باعتقاد كون حصول المطلوب من غير أسبابه العادية التي مضت بها السنن الإلهية العامة قد كان بمجموع إرادة هؤلاء الأولياء وإرادة الله تعالى ، فمقتضى هذا الاعتقاد أن إرادة الله تعالى ما تعلقت بفعل ذلك المطلب إلا بالتبع لإرادة الولي الشافع أو المتخذ وليا شفيعا ، والحق أن إرادة الله تعالى أزلية لا يمكن أن تؤثر فيها المحدثات ، كما تقدم تقريره مرارا بشواهد الآيات القرآنية:ثم وصف الله تعالى بما ينافي اتخاذ غيره وليا فقال:
{ فاطر السماوات والأرض} مبدعهما أي مبدئهما على غير مثال سابق ، وروي عن ابن عباس أنه قال ما عرفت ما فاطر السموات والأرض حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما:أنا فطرتها .أي ابتدعتها .وأصل الفطر الشق ، ومنه{ إذا السماء انفطرت} [ الانفطار:1] بمعنى{ إذا السماء انشقت} [ الانشقاق:1] وقيل للكمأة فطر لأنها تفطر الأرض فتخرج منها ، وإيجاد البئر إنما يبتدإ بشق الأرض بالحفر .وقد كانت المادة التي خلق الله منها السموات والأرض كتلة واحدة دخانية ، ففتق رتقها وفصل منها أجرام السموات والأرض ، وذلك ضرب من الفطر والشق{ أو لم ير الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما} [ الأنبياء:30] – الرؤية هنا علمية - .
وصف الله تعالى بفاطر السموات والأرض – وهو لا نزاع فيه – يؤيد إنكار اتخاذ غيره وليا يستنصر ويستعان به أو يتخذ واسطة للتأثير في الإرادة الإلهية ، فإن من فطر السموات والأرض بمحض إرادته من غير تأثير مؤثر ولا شفاعة شافع يجب أن يتوجه إليه وحده بالدعاء .وإياه يستعان في كل ما وراء الأسباب ، وأكد هذا بقوله{ وهو يطعم ولا يطعم} أي يرزق الناس الطعام ولا يحتاج إلى من يرزقه ويطعمه لأنه منزه عن الحاجة إلى الطعام وغيره غني بنفسه عن كل ما سواه .وقرأ أبو عمرو « ولا يطعم » بفتح الياء ، أي لا يأكل .وهذه الجملة حالية مؤيدة لإنكار اتخاذ ولي غير الله ، وفيها تعريض بمن اتخذوا أولياء من دونه من البشر بأنهم محتاجون إلى الطعام لا حياة لهم ولا بقاء إلى الأجل المحدود بدونه ، وإن الله تعالى هو الذي خلق لهم الطعام فهم عاجزون عن البقاء بدونه وعاجزون عن خلقه وإيجاده فكيف يتخذون أولياء مع الغني الحميد ، الرزاق الفعال لما يريد ، كما قال في الاحتجاج على النصارى في عبادة المسيح وأمه عليهما السلام{ ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام} [ المائدة:75] وأما الأولياء المتخذة من غير البشر كالأصنام ، فهي أضعف وأعجز من البشر ، لاتفاق عقلاء الأمم كلها على تفضيل الحيوان على الجماد ، وتفضيل الإنسان على جميع أنواع الحيوان .
{ قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم} أي قل أيها الرسول بعد إيراد هذه الآيات والحجج على وجوب عبادة الله وحده وعدم اتخاذ غيره وليا:إني أمرت من لدن ربي الموصوف بما ذكر من الصفات أن أكون أول من أسلم إليه وانقاد لدينه من هذه الأمة التي بعثت فيها ، فلست أدعو إلى شيء لا آخذ به ، بل أنا أول مؤمن وعامل بهذا الدين{ ولا تكونن من المشركين ( 14 )}
أي وقيل لي بعد هذا الأمر بالسبق إلى إسلام الوجه له:لا تكونن من المشركين الذين اتخذوا من دونه أولياء يزعمون أنهم يقربونهم إليه زلفى .فأنا أتبرأ من دينكم ومنكم .وحاصل المعنى أنني أمرت بالإسلام ونهيت عن الشرك .كذا قيل ، والأولى أن يقال:إن حاصله الجمع بين الإسلام والبراءة من الشرك وأهله .