/م194
وبعد أن نفى قدرتهم على النصر ، قفى عليه بنفي قدرتهم على الإرشاد إليه فقال:{ وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا} .أي وإن تدعوهم إلى أن يهدوكم إلى ما تنصرون به من أسباب خفية أو جلية لا يسمعوا دعاءكم مطلقا ، فكيف يستجيبون لكم ؟ على أنهم لو سمعوا لما استجابوا لعجزهم عن الفعل ، كفقدهم للسمع ،{ وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون} أي وهم فاقدون لحاسة البصر كفقدهم لحاسة السمع ، وتراهم أيها المخاطب ينظرون إليك بما وضع لهم من الأعين الصناعية ، والحدق الزجاجية أو الجواهرية ، وجعلها موجهة إلى الداخل عليها كأنها تنظر إليه ، وهم لا يبصرون بها لأن الإبصار لا يحل بالصناعة ، بل هو من خواص الحياة التي استأثر الله سبحانه بها ، وإذا كانوا لا يسمعون دعاء ولا نداء من عابدهم ولا من غيره ، ولا يبصرون حاله وحال خصمه ، فأنى يرجى منهم نصره وشد أزره ؟
وفي الآية وجه آخر ذهب إليه بعضهم وهو أن الخطاب فيها للمؤمنين والرسول في مقدمتهم بناء على أن الكلام في الأصنام قد تم فيما قبلها وعاد الكلام في عابديها ، أي وإن تدعوا أيها المؤمنون هؤلاء الأغبياء من المشركين ، الذين لم يعقلوا هذه الحجج والبراهين ، إلى هدى الله وهو التوحيد الإسلام لا يسمعوا دعوتكم سماع فهم واعتبار ، وتراهم أيها الرسول ينظرون إليك وهم لا يبصرون ما أوتيت من سمت الجلال والوقار ، الذي يميز به صاحب البصيرة بين أولي الجد والعزم ، والصدق في القول والفعل ، وبين أهل العبث والهزل .ولقد كان بعض ذوي الفطرة السليمة ينظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيعرف من شمائله وسيماه في وجهه ، أنه حر صادق ، غير مخادع ولا مماذق ، فيقول والله ما هذا الوجه وجه كاذب .
وما زال من المعهود بين الناس أن أصحاب البصيرة والفضيلة من الناس يعرف بعضهم بعضا بذلك من أول العهد ، بالتلاقي بما يتوسمون من ملامح الوجه ومعارفه ثم من موضوع الحديث وتأثيره في نفس المتكلم والسامع ثم يكمل ذلك بالمعاشرة .كما يعرفون حال الأشرار والمنافقين بذلك{ ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول} [ محمد:30] بهذه البصيرة النيرة عرفت السيدة خديجة فضلى عقائل قريش فضائل محمد بن عبد الله قبل بعثته ، فاستمالته وخطبته لنفسها على غناها وفقره ، بعد أن رفضت أناسا من كبراء قريش خطبوها بعد موت زوجها الأول ، ثم كانت أول من جزم برسالته عندما حدثها بأول ما رآه من بدء الوحي وخاف على نفسه منه ، وقد كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه أول رجل دعاه الرسول صلوات الله وسلامه عليه إلى الإسلام بحسن فراسته فيه فلم يتوقف ولم يتمكث ولم يتريث أن أجاب الدعوة منشرح الصدر قرير العين لأنه كان أجدر الناس بمعرفة حقيقتها وحقيقة من دعا إليها .وأمثلة هذا كثيرة في كل زمان .
وكان أظهرها في قرننا هذا تعلق الشيخ محمد عبده بالسيد جمال الدين الأفغاني من أول ليلة رآه فيها لازمه إلى أن فارق هذه الديار ، فلم يعرفه حق المعرفة غيره على كثرة المكبرين له والمعجبين به ، وقد كان الكثيرون من أهل الأزهر يفرون منه ويصدون عنه ، فأين هم وأين آثارهم في العلم أو الدين ؟ فبأمثال هذه العبر الواقعة تفهم معنى قوله تعالى:{ وتراهم ينظرون إليك وهو لا يبصرون} على الوجه الأخير في تفسيرها ، لا بمجرد تسمية هذا التعبير استعارة شبه فيها كذا بكذا .ثم اقرأ في معناه قوله تعالى:{ ومنهم من يستمعون إليك أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدي العمى ولو كانوا لا يبصرون} [ يونس:42] .