لما ذكرهم [ الله] تعالى بنعمه أولا عطف على ذلك التحذير من حلول نقمه بهم يوم القيامة فقال:( واتقوا يوما ) يعني يوم القيامة ( لا تجزي نفس عن نفس شيئا ) أي:لا يغني أحد عن أحد كما قال:( ولا تزر وازرة وزر أخرى ) [ الأنعام:164] ، وقال:( لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه ) [ عبس:37] ، وقال ( يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا ) [ لقمان:33] ، فهذه أبلغ المقامات:أن كلا من الوالد وولده لا يغني أحدهما عن الآخر شيئا ، وقوله تعالى:( ولا يقبل منها شفاعة ) يعني عن الكافرين ، كما قال:( فما تنفعهم شفاعة الشافعين ) [ المدثر:48] ، وكما قال عن أهل النار:( فما لنا من شافعين ولا صديق حميم ) [ الشعراء:110 ، 111] ، وقوله:( ولا يؤخذ منها عدل ) أي:لا يقبل منها فداء ، كما قال تعالى:( إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به ) [ آل عمران:91] وقال:( إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم ) [ المائدة:36] وقال تعالى:( وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها ) [ الأنعام:70] ، وقال:( فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا ) الآية [ الحديد:15] ، فأخبر تعالى أنهم إن لم يؤمنوا برسوله ويتابعوه على ما بعثه به ، ووافوا الله يوم القيامة على ما هم عليه ، فإنه لا ينفعهم قرابة قريب ولا شفاعة ذي جاه ، ولا يقبل منهم فداء ، ولو بملء الأرض ذهبا ، كما قال تعالى:( من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة ) [ البقرة:254] ، وقال ( لا بيع فيه ولا خلال ) [ إبراهيم:31] .
[ وقال سنيد:حدثني حجاج ، حدثني ابن جريج ، قال:قال مجاهد:قال ابن عباس:( ولا يؤخذ منها عدل ) قال:بدل ، والبدل:الفدية ، وقال السدي:أما عدل فيعدلها من العذاب يقول:لو جاءت بملء الأرض ذهبا تفتدي به ما تقبل منها ، وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ،] . وقال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، في قوله:( ولا يؤخذ منها عدل ) يعني:فداء .
قال ابن أبي حاتم:وروي عن أبي مالك ، والحسن ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، والربيع بن أنس ، نحو ذلك .
وقال عبد الرزاق:أنبأنا الثوري ، عن الأعمش ، عن إبراهيم التيمي ، عن أبيه عن علي - رضي الله عنه - في حديث طويل ، قال:والصرف والعدل:التطوع والفريضة .
وكذا قال الوليد بن مسلم ، عن عثمان بن أبي العاتكة ، عن عمير بن هانئ .
وهذا القول غريب هنا ، والقول الأول أظهر في تفسير هذه الآية ، وقد ورد حديث يقويه ، وهو ما قال ابن جرير:حدثني نجيح بن إبراهيم ، حدثنا علي بن حكيم ، حدثنا حميد بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن عمرو بن قيس الملائي ، عن رجل من بني أمية - من أهل الشام أحسن عليه الثناء - قال:قيل:يا رسول الله ، ما العدل ؟ قال:العدل الفدية .
وقوله تعالى:( ولا هم ينصرون ) أي:ولا أحد يغضب لهم فينصرهم وينقذهم من عذاب الله ، كما تقدم من أنه لا يعطف عليهم ذو قرابة ولا ذو جاه ولا يقبل منهم فداء . هذا كله من جانب التلطف ، ولا لهم ناصر من أنفسهم ، ولا من غيرهم ، كما قال:( فما له من قوة ولا ناصر ) [ الطارق:10] أي:إنه تعالى لا يقبل فيمن كفر به فدية ولا شفاعة ، ولا ينقذ أحدا من عذابه منقذ ، ولا يجيره منه أحد ، كما قال تعالى:( وهو يجير ولا يجار عليه ) [ المؤمنون:88] . وقال ( فيومئذ لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد ) [ الفجر:25 ، 26] ، وقال ( ما لكم لا تناصرون بل هم اليوم مستسلمون ) [ الصافات:25 ، 26] ، وقال ( فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة بل ضلوا عنهم ) الآية [ الأحقاف:28] .
وقال الضحاك عن ابن عباس في قوله:( ما لكم لا تناصرون ) ما لكم اليوم لا تمانعون منا ؟ هيهات ليس ذلك لكم اليوم .
قال ابن جرير:وتأويل قوله:( ولا هم ينصرون ) يعني:إنهم يومئذ لا ينصرهم ناصر ، كما لا يشفع لهم شافع ، ولا يقبل منهم عدل ولا فدية ، بطلت هنالك المحاباة واضمحلت الرشا والشفاعات ، وارتفع من القوم التعاون والتناصر ، وصار الحكم إلى عدل الجبار الذي لا ينفع لديه الشفعاء والنصراء ، فيجزي بالسيئة مثلها وبالحسنة أضعافها وذلك نظير قوله تعالى:( وقفوهم إنهم مسئولون ما لكم لا تناصرون بل هم اليوم مستسلمون ) [ الصافات:24 ، 26]