قوله : { وَقُلْ للمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ } هو على معنى ما نُهي الرجل عنه من النظر إلى ما حرّم عليه النظر إليه .
وقوله تعالى : { وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ } وقوله : { وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ } فإنه رُوي عن أبي العالية أنه قال : كل آية في القرآن : " يحفظوا فروجهم ويحفظن فروجهن " من الزنا ، إلا التي في النور : { يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ } { وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ } أن لا ينظر إليها أحد . قال أبو بكر : هذا تخصيص بلا دلالة ، والذي يقتضيه الظاهر أن يكون المعنى حِفْظُها عن سائر ما حرم عليه من الزنا واللمس والنظر ، وكذلك سائر الآي المذكورة في غير هذا الموضع في حفظ الفروج هي على جميع ذلك ما لم تقم الدلالة على أن المراد بعض ذلك دون بعض ؛ وعسى أن يكون أبو العالية ذهب في إيجاب التخصيص في النظر لما تقدم من الأمر بغضّ البصر ، وما ذكره لا يوجب ذلك لأنه لا يمتنع أن يكون مأموراً بغَضِّ البصر وحفظ الفروج من النظر ومن الزنا وغيره من الأمور المحظورة ؛ وعلى أنه إن كان المراد حظر النظر فلا محالة أن اللمس والوَطْءَ مرادان بالآية إذْ هما أغلظ من النظر ، فلو نَصَّ الله على النظر لكان في مفهوم الخطاب ما يوجب حظر الوطء واللمس كما أن قوله : { فلا تقل لهما أفّ ولا تنهرهما } [ الإسراء : 23 ] قد اقتضى حَظْرَ ما فوق ذلك من السبِّ والضرب .
قوله تعالى : { وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا } . رُوي عن ابن عباس ومجاهد وعطاء في قوله : { إِلاّ ما ظَهَرَ مِنْهَا } قال : " ما كان في الوجه والكفّ ، الخضاب والكحل " ، وعن ابن عمر مثله ، وكذلك عن أنس . ورُوي عن ابن عباس أيضاً : " أنها الكفُّ والوجه والخاتم " . وقالت عائشة : " الزينة الظاهرة : القُلْبُ والفَتَخَة " . وقال أبو عبيدة : " الفتخة ، الخاتم " . وقال الحسن : " وجهها وما ظهر من ثيابها " . وقال سعيد بن المسيب : " وجهها مما ظهر منها " . ورَوَى أبو الأحوص عن عبدالله قال : " الزينة زينتان : زينة باطنة لا يراها إلا الزوج الإكليل والسوار والخاتم ، وأما الظاهرة فالثياب " . وقال إبراهيم : " الزينة الظاهرة الثياب " .
قال أبو بكر : قوله تعالى : { وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا } إنما أراد به الأجنبيين دون الزوج وذوي المحارم ؛ لأنه قد بيّن في نسق التلاوة حكْمَ ذوي المحارم في ذلك . وقال أصحابنا : المراد الوجه والكفّان لأن الكحل زينة الوجه والخضاب والخاتم زينة الكف ، فإذْ قد أباح النظر إلى زينة الوجه والكفِّ فقد اقتضى ذلك لا محالة إباحة النظر إلى الوجه والكفين . ويدلّ على أنّ الوجه والكفَّيْن من المرأة ليسا بعورة أيضاً أنها تصلِّي مكشوفة الوجه واليدين ، فلو كانا عورةً لكان عليها سترهما كما عليها ستر ما هو عورة ؛ وإذا كان كذلك جاز للأجنبي أن ينظر من المرأة إلى وجهها ويديها بغير شهوة ، فإن كان يشتهيها إذا نظر إليها جاز أن ينظر لعُذْرٍ مثل أن يريد تزويجها أو الشهادة عليها أو حاكم يريد أن يسمع إقرارها . ويدل على أنه لا يجوز له النظر إلى الوجه لشهوة قوله صلى الله عليه وسلم لعليّ : " لا تُتْبِعِ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ فإِنَّ لَكَ الأُولَى ولَيْسَ لَكَ الآخِرَة " ، وسأل جرير رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظرة الفجاءة فقال : " اصْرِفْ بَصَرَكَ " ولم يفرق بين الوجه وغيره ، فدلّ على أنه أراد النظرة بشهوة ؛ وإنما قال : " لك الأولى " لأنها ضرورة : " وليس لك الآخرة " لأنها اختيار . وإنما أباحوا النظر إلى الوجه والكفين وإن خاف أن يشتهي لما ذكرنا من الأعذار للآثار الواردة في ذلك ، منها : ما رَوَى أبو هريرة أن رجلاً أراد أن يتزوج امرأة من الأنصار ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " انْظُرْ إِلَيْهَا فَإِنَّ في أَعْيُنِ الأَنْصَارِ شَيْئاً " يعني الصِّغَرَ . وروى جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم : " إِذَا خَطَبَ أَحَدُكُمْ فَقَدِرَ على أنْ يَرَى مِنْها ما يُعْجِبُهُ ويَدْعُوهُ إِلَيْهَا فَلْيَفْعَلْ " . وروى موسى بن عبدالله بن يزيد عن أبي حميد وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إِذَا خَطبَ أَحَدُكُمُ المَرْأَةَ فلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْها إِذا كَانَ إِنّما يَنْظُرُ إِليها للخِطْبَةِ " . وروَى سليمان بن أبي حثمة عن محمد بن سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله . وروى عاصم الأحول عن بكير بن عبدالله عن المغيرة بن شعبة قال : خَطَبْنا امرأة فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " نَظَرْتَ إِلَيْها ؟ " فقلت : لا ، فقال : " انْظُرْ فإنّه لأَجْدَرُ أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَكُمَا " . فهذا كله يدل على جواز النظر إلى وجهها وكفّها بشهوة إذا أراد أن يتزوجها ، ويدل عليه أيضاً قوله : { لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن } [ الأحزاب : 52 ] ، ولا يعجبه حسنهنّ إلا بعد رؤية وجوههن . ويدل على أن النظر إلى وجهها بشهوة محظورٌ قولُه صلى الله عليه وسلم : " العَيْنَانِ تَزْنِيَانِ واليَدَانِ تَزْنِيَانِ والرِّجْلاَنِ تَزْنِيَانِ ويُصَدِّقُ ذَلِكَ كُلَّهُ الفَرْجُ أو يُكَذِّبُهُ " . وقول ابن مسعود في أن ما ظهر منها هو الثياب لا معنى له ؛ لأنه معلوم أنه ذكر الزينة والمراد العضو الذي عليه الزينة ، ألا ترى أن سائر ما تتزين به من الحليِّ والقُلْب والخلخال والقلادة يجوز أن تظهرها للرجال إذا لم تكن هي لابستها ؟ فعلمنا أن المراد موضع الزينة كما قال في نسق التلاوة بعد هذا : { وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ } ، والمراد موضع الزينة ، فتأويلها على الثياب لا معنى له إذْ كان ما يرى الثياب عليها دون شيء من بدنها كما يراها إذا لم تكن لابستها .
قوله تعالى : { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ } . روت صفية بنت شيبة عن عائشة أنها قالت : " نِعْمَ النساءُ نساء الأنصار ، لم يكن يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين وأن يسألن عنه ؛ لما نزلت سورة النور عمدن إلى حجوز مناطقهن فشققنه فاختمرن به " . قال أبو بكر : قد قيل إنه أراد جيب الدروع ؛ لأن النساء كن يلبسن الدروع ولها جَيْبٌ مثل جيب الدّراعة فتكون المرأة مكشوفة الصدر والنحر إذا لبستها ، فأمرهن الله بستر ذلك الموضع بقوله : { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ } ، وفي ذلك دليل على أن صدر المرأة ونَحْرَها عورةٌ لا يجوز للأجنبيّ النظر إليهما منها .
قوله تعالى : { وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلاّ لبُعُولَتِهِنَّ } الآية . قال أبو بكر : ظاهره يقتضي إباحة إبداء الزينة للزوج ولمن ذُكر معه من الآباء وغيرهم ، ومعلوم أن المراد موضع الزينة وهو الوجه واليد والذراع لأن فيها السوارَ والقُلْبَ ، والعَضُدُ وهو موضع الدُّمْلُج ، والنحرُ والصدرُ موضع القلادة ، والساقُ موضع الخلخال ، فاقتضى ذلك إباحة النظر للمذكورين في الآية إلى هذه المواضع وهي مواضع الزينة الباطنة ؛ لأنه خصَّ في أول الآية إباحة الزينة الظاهرة للأجنبيين وأباح للزوج وذوي المحارم النظر إلى الزينة الباطنة . ورُوي عن ابن مسعود والزبير : " القرط والقلادة والسوار والخلخال " . ورَوَى سفيان عن منصور عن إبراهيم { أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ } قال : " ينظر إلى ما فوق الذراع من الأذن والرأس " . قال أبو بكر : لا معنى لتخصيص الأذن والرأس بذلك ، إذ لم يخصص الله شيئاً من مواضع الزينة دون شيء ، وقد سوَّى في ذلك بين الزوج وبين من ذكر معه ، فاقتضى عمومه إباحة النظر إلى مواضع الزينة لهؤلاء المذكورين كما اقتضى إباحتها للزوج . ولما ذكر الله تعالى مع الآباء ذوي المحارم الذين يحرم عليهم نكاحهن تحريماً مؤبداً دلَّ ذلك على أن من كان في التحريم بمثابتهم فحكمه حكمهم ، مثل زوج الابنة وأم المرأة والمحرمات من الرضاع ونحوهن . ورُوي عن سعيد بن جبير أنه سئل عن الرجل ينظر إلى شعر أجنبية ، فكرهه وقال : ليس في الآية . قال أبو بكر : إنه وإن لم يكن في الآية فهو في معنى ما ذُكر فيها من الوجه الذي ذكرنا ، وهذا الذي ذكر من تحريم النظر في هذه الآية إلا ما خصّ منه إنما هو مقصور على الحرائر دون الإماء ؛ وذلك لأن الإماء لسائر الأجنبيين بمنزلة الحرائر لذوي محارمهن فيما يحلّ النظر إليه ، فيجوز للأجنبي النظر إلى شعر الأَمَةِ وذراعِها وساقِها وصَدْرِها وثَدْيها كما يجوز لذوي المحرم النظر إلى ذات محرمه ؛ لأنه لا خلاف أن للأجنبيّ النظر إلى شعر الأَمةِ . ورُوي أن عمر كان يضرب الإماء ويقول : " اكشفن رؤوسكن ولا تتشبهن بالحرائر " ، فدل على أنهن بمنزلة ذوات المحارم . ولا خلاف أيضاً أنه يجوز للأَمَةِ أن تسافر بغير محرم ، فكان سائر الناس لها كذوي المحارم للحرائر حين جاز لهم السفر بهن ، ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلم : " لا يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بالله واليَوْمِ الآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ سَفَراً فَوْقَ ثَلاثٍ إِلاّ مَعَ ذي مَحْرَمٍ أَوْ زَوْجٍ " فلما جاز للأمة أن تسافر بغير محرم علمنا أنها بمنزلة الحرة لذوي محرمها فيما يستباح النظر إليه منها . وقوله : " لا يحل لامْرَأة تُؤْمِنُ بالله واليَوْمِ الآخِرِ أن تسافر سَفَراً فَوْقَ ثلاثٍ إِلاّ مَعَ ذي مَحْرَمٍ أو زَوْجٍ " دالٌّ على اختصاص ذي المحرم باستباحة النظر منها إلى كل ما لا يحل للأجنبي ، وهو ما وصفنا بديّاً . ورَوَى منذر الثوري أن محمد ابن الحنفية كان يمشط أمه ، وروى أبو البختري أن الحسن والحسين كانا يدخلان على أختهما أم كلثوم وهي تمتشط ، وعن ابن الزبير مثله في ذات محرم منه . ورُوي عن إبراهيم : أنه لا بأس أن ينظر الرجل إلى شعر أمّهِ وأخته وخالته وعمته ، وكره الساقين . قال أبو بكر : لا فرق بينهما في مقتضي الآية . ورَوَى هشام عن الحسن في المرأة تضع خمارها عند أخيها قال : " والله ما لها ذلك " . وروى سفيان عن ليث عن طاوس : أنه كره أن ينظر إلى شعر ابنته وأخته . وروى جرير عن مغيرة عن الشعبي : أنه كره أن يسدّد الرجل النظر إلى شعر ابنته وأخته . قال أبو بكر : وهذا عندنا محمول على الحال التي يُخَافُ فيها أن تُشْتَهَى ؛ لأنه لو حمل على الحال التي يأمن فيها الشهوة لكان خلاف الآية والسنّة ولكان ذو مَحْرَمِها والأجنبيون سواء . والآية أيضاً مخصوصة في نظر الرجال دون النساء ؛ لأن المرأة يجوز لها أن تنظر من المرأة إلى ما يجوز للرجل أن ينظر من الرجل وهو السُّرَّة فما فوقها وما تحت الركبة ، والمحظور عليهن من بعضهن لبعض ما تحت السرَّة إلى الركبة .
وقوله تعالى : { أَوْ نِسَائِهِنَّ } . رُوي أنه أراد نساء المؤمنات .
قوله : { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ } ، تأوله ابن عباس وأم سلمة وعائشة أن للعبد أن ينظر إلى شعر مولاته ، قالت عائشة : وإلى شعر غير مولاته ؛ رُوي أنها كانت تمتشط والعبد ينظر إليها . وقال ابن مسعود ومجاهد والحسن وابن سيرين وابن المسيب : " إن العبد لا ينظر إلى شعر مولاته " ، وهو مذهب أصحابنا ، إلا أن يكون ذا محرم ، وتأولوا قوله : { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ } على الإماء لأن العبد والحر في التحريم سواء ، فهي وإن لم يَجُزْ لها أن تتزوجه وهو عبدها فإن ذلك تحريم عارِضٌ كمن تحته امرأة أختها محرمة عليه ولا يبيح له ذلك النظر إلى شعر أختها ، وكمن عنده أربع نسوة سائر النساء محرمات عليه في الحال ولا يجوز له أن يستبيح النظر إلى شعورهن ؛ فلما لم يكن تحريمها على عبدها في الحال تحريماً مؤبداً كان العبد بمنزلة سائر الأجنبيين . وأيضاً قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بالله واليَوْمِ الآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ سَفَراً فَوْقَ ثَلاثٍ إِلا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ " والعبدُ ليس بذي محرم منها فلا يجوز أن يسافر بها ، وإذا لم يجز له السفر بها لم يجز له النظر إلى شعرها كالحرّ الأجنبي .
فإن قيل : هذا يؤدّي إلى إبطال فائدة ذكر ملك اليمين في هذا الموضع . قيل له : ليس كذلك ؛ لأنه قد ذكر النساء في الآية بقوله : { أَوْ نِسَائِهِنَّ } وأراد بهن الحرائر المسلمات ، فجاز أن يَظُنَّ ظانٌّ أن الإماء لا يجوز لهن النظر إلى شعر مولاتهن وإلى ما يجوز للحرة النظر إليه منها ، فأبان تعالى أن الأَمَةَ والحرة في ذلك سواء ، وإنما خَصّ نساءهن بالذكر في هذا الموضع لأن جميع من ذكر قبلهن هم الرجال بقوله : { وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لبُعُولَتِهِنَّ } إلى آخر ما ذكر ، فكان جائزاً أن يظن ظانّ أن الرجال مخصوصون بذلك إذا كانوا ذوي محارم ، فأبان تعالى إباحة النظر إلى هذه المواضع من نسائهن سواء كنَّ ذوات محارم أو غير ذوات محارم ، ثم عطف على ذلك الإماءَ بقوله : { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ } لئلا يَظُنَّ ظَانٌّ أن الإباحة مقصورة على الحرائر من النساء ، إذ كان ظاهر قوله : { أَو نِسَائِهِنَّ } يقتضي الحرائر دون الإماء ، كما كان قوله : { وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ } على الحرائر دون المماليك ، وقوله : { شهيدين من رجالكم } [ البقرة : 282 ] الأحرار ، لإضافتهم إلينا ؛ كذلك قوله : { أَوْ نِسَائِهِنَّ } على الحرائر ، ثم عطف عليهن الإماء فأباح لهن مثل ما أباح في الحرائر .
وقوله تعالى : { أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ } . رُوي عن ابن عباس وقتادة ومجاهد قالوا : " الذي يتبعك ليصيب من طعامك ولا حاجة له في النساء " . وقال عكرمة : " هو العِنِّينُ " . وقال مجاهد وطاوس وعطاء والحسن : " هو الأبله " . وقال بعضهم : " هو الأحمق الذي لا أَرَبَ له في النساء " . وروى الزهري عن عروة عن عائشة قالت : كان يدخل على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مُخَنّث فكانوا يعدونه من غير أُولى الإربة ، قالت : فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وهو ينعت امرأة فقال : " لا أُرَى هَذَا يَعْلَمُ ما هاهُنا ، لا يَدْخُلَنَّ عَلَيْكُنَّ " ، فحجبوه . وروى هشام بن عروة عن أبيه عن زينب أم سلمة : أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها مخنّث ، فأقبل على أخي أم سلمة فقال : يا عَبْدَ الله لو فتح الله لكم غداً الطائف دَلَلْتُكَ على بنت غيلان فإنها تُقْبِل بأربع وتُدْبر بثمان ، فقال : " لا أُرَى هَذَا يَعْرِفُ ما هاهُنَا لا يَدْخُلُ عَلَيْكُمْ " . فأباح النبي صلى الله عليه وسلم دخول المخنث عليهن حين ظنّ أنه من غير أولي الإربة ، فلما علم أنه يعرف أحوال النساء وأوصافهن علم أنه من أولي الإربة فحجبه .
وقوله تعالى : { أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ } ، قال مجاهد : " هم الذين لا يدرون ما هنّ من الصغر " . وقال قتادة : " ألذين لم يبلغوا الحُلُمَ منكم " . قال أبو بكر : قول مجاهد أظْهَرُ لأن معنى أنهم لم يظهروا على عورات النساء أنهم لا يميزون بين عورات النساء والرجال لصغرهم وقلة معرفتهم بذلك ، وقد أمر الله تعالى الطفل الذي قد عرف عَوْرَات النساء بالاستئذان في الأوقات الثلاثة بقوله : { لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الحُلمَ مِنْكُمْ } وأراد به الذي عرف ذلك واطّلع على عورات النساء ، والذي لا يؤمر بالاستئذان أصغر من ذلك . وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " مُرُوهُمْ بالصَّلاةِ لِسَبْعٍ واضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا لِعَشْرٍ وفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ في المَضَاجِعِ " ، فلم يأمر بالتفرقة قبل العشر وأمر بها في العشر ؛ لأنه قد عرف ذلك في الأكثر الأعمّ ولا يعرفه قبل ذلك في الأغلب .
وقوله تعالى : { وَلا يَضْرِبْنَ بأَرْجُلِهِنَّ ليُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ } . رَوَى أبو الأحوص عن عبدالله قال : " هو الخلخال " ، وكذلك قال مجاهد : " إنما نُهيت أن تضرب برجليها ليسمع صوت الخلخال " وذلك قوله : { لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ } . قال أبو بكر : قد عُقِلَ من معنى اللفظ النهي عن إبداء الزينة وإظهارها لورود النصّ في النهي عن إسماع صوتها ، إذ كان إظهارُ الزينة أوْلى بالنهي مما يعلم به الزينة ، فإذا لم يَجُزْ بأَخْفَى الوجهين لم يجز بأظهرهما ؛ وهذا يدل على صحة القول بالقياس على المعاني التي قد علّق الأحكام بها ، وقد تكون تلك المعاني تارة جَلِيَّةً بدلالة فَحْوَى الخطاب عليها وتارة خَفِيَّةً يُحتاج إلى الاستدلال عليها بأصول أُخَرَ سواها . وفيه دلالة على أن المرأة منهيّة عن رفع صوتها بالكلام بحيث يسمع ذلك الأجانب ، إذْ كان صوتها أقرب إلى الفتنة من صوت خلخالها ؛ ولذلك كره أصحابنا أذان النساء لأنه يُحتاج فيه إلى رفع الصوت والمرأة منهية عن ذلك ، وهو يدل أيضاً على حظر النظر إلى وجهها للشهوة إذ كان ذلك أقرب إلى الريبة وأوْلَى بالفتنة .