قوله تعالى : { لا يَتّخِذِ المُؤْمِنُونَ الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ } الآية . فيه نَهْيٌ عن اتّخاذ الكافرين أولياء ؛ لأنه جزم الفعل ، فهو إذاً نهيٌ وليس بخبر . قال ابن عباس : نهى الله تعالى المؤمنين بهذه الآية أن يُلاطفوا الكفار ؛ ونظيرها من الآي قوله تعالى : { لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً } [ آل عمران : 118 ] ، وقال تعالى : { لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادّون من حادّ الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم }
[ المجادلة : 22 ] الآية ، وقال تعالى : { فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين } [ الأنعام : 68 ] ، وقال تعالى : { فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذاً مثلهم } [ النساء : 140 ] ، وقال تعالى : { ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار } [ هود : 113 ] ، وقال تعالى :
{ فأعرض عمن تولّى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا } [ النجم : 29 ] ، وقال تعالى : { وأعرض عن الجاهلين } [ الأعراف : 199 ] ، وقال تعالى : { يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغْلُظْ عليهم } [ التوبة : 73 ] ، وقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض } [ المائدة : 51 ] ، وقال تعالى : { ولا تمدنّ عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه } [ طه : 131 ] ، فنهى بعد النهي عن مجالستهم وملاطفتهم عن النظر إلى أموالهم وأحوالهم في الدنيا . ورُوي " أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بإِبلٍ لبني المصطلق وقد عَبِسَتْ بأبوالها من السمن ، فتقنع بثوبه ومَضَى " لقوله تعالى : { ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم } [ طه : 131 ] . وقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة } [ الممتحنة : 1 ] . ورُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أنا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ مَعَ مُشْركٍ " ، فقيل : لم يا رسول الله ؟ فقال : " لا تَرَاءَى نَارَاهُما " . وقال : " أَنا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ أَقَامَ بَيْنَ أَظْهُرِ المُشْرِكِينَ " . فهذه الآي والآثار دالَّةٌ على أنه ينبغي أن يُعَامَلَ الكفارُ بالغلظة والجفوة دون الملاطفة والملاينة ، ما لم تكن حالٌ يخاف فيها على تَلَفِ نفسه أو تلف بعض أعضائه أو ضرراً كبيراً يلحقه في نفسه ، فإنه إذا خاف ذلك جاز له إظهار الملاطفة والموالاة من غير صحة اعتقاد .
والولاء ينصرف على وجهين ، أحدهما : مَنْ يَلي أمورَ مَنْ يرتضي فِعْلَهُ بالنصرة والمعونة والحياطة ، وقد يسمَّى بذلك المعانُ المنصور ، قال الله تعالى : { الله ولي الذين آمنوا } [ البقرة : 257 ] يعني أنه يتولَّى نَصْرَهُمْ وَمَعُونَتَهُمْ . والمؤمنون أولياء الله بمعنى أنهم مُعَانُون بنصرة الله ، قال الله تعالى : { ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون } [ يونس : 62 ] .
قوله تعالى : { إلاّ أنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً } يعني أن تخافوا تَلَفَ النفس وبعض الأعضاء فتتّقُوهم بإظهار الموالاة من غير اعتقاد لها . وهذا هو ظاهر ما يقتضيه اللفظ وعليه الجمهور من أهل العلم ؛ وقد حدثنا عبدالله بن محمد بن إسحاق المروزي قال : حدثنا الحسن بن أبي الربيع الجرجاني قال : أخبرنا عبدالرزاق قال : أخبرنا معمر عن قتادة في قوله تعالى : { لا يَتَّخِذِ المُؤْمِنُونَ الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ } قال : " لا يحل لمؤمن أن يتخذ كافراً وليّاً في دينه " . وقوله تعالى : { إلاّ أن تَتّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً } : إلا أن تكون بينه وبينه قرابة فَيَصِلُهُ لذلك ؛ فجعل التقية صلة لقرابة الكافر . وقد اقتضت الآية جواز إظهار الكفر عند التقية ، وهو نظير قوله تعالى : { من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان } [ النحل : 106 ] . وإعطاء التّقِيَّةِ في مثل ذلك إنما هو رخصةٌ من الله تعالى وليس بواجب ، بل تَرْكُ التقية أفضل ، قال أصحابنا فيمن أُكْرِهَ على الكفر فلم يفعل حتى قُتل : إنه أفضل ممن أظهر . وقد أخذ المشركون خبيب بن عديّ فلم يُعْطِ التقية حتى قُتل ، فكان عند المسلمين أفضل من عمار بن ياسر حين أعْطَى التقية وأظهر الكُفْرَ فسأل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال : " كَيْفَ وَجَدْتَ قَلْبَكَ " ؟ قال : مطمئناً بالإيمان ، فقال صلى الله عليه وسلم : " وإنْ عَادُوا فَعُدْ ! " وكان ذلك على وجه الترخيص . ورُوي أن مُسَيْلِمَةَ الكذاب أخذ رجلين من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال لأحدهما : أتشهد أن محمداً رسول الله ؟ قال : نعم ! قال : أتشهد أني رسول الله ؟ قال : نعم ! فخلاّه ، ثم دعا بالآخر وقال : أتشهد أن محمداً رسول الله ؟ قال : نعم ! قال : أتشهد أني رسول الله ؟ قال : إني أصَمُّ ، قالها ثلاثاً ؛ فضرب عنقه ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " أَمَّا هَذَا المَقْتُولُ فَمَضَى عَلَى صِدْقِهِ وَيَقِينِهِ وَأَخَذَ بِفَضِيلَةٍ فَهَنِيئاً لَهُ ، وأمّا الآخَرُ فَقَبِلَ رُخْصَةَ الله فلا تَبِعَةَ عَلَيْهِ " . وفي هذا دليل على أن إعطاء التقية رخصةٌ وأن الأفضل ترك إظهارها . وكذلك قال أصحابنا في كل أمر كان فيه إعزازُ الدين ، فالإقدام عليه حتى يُقْتَلَ أَفْضَلُ من الأخْذِ بالرخصة في العدول عنه ، ألا ترى أن من بذل نفسه لجهاد العدو فقُتل كان أفضلَ من انحاز ؟ وقد وصف الله أحوال الشهداء بعد القتل وجعلهم أحياء مرزوقين ، فكذلك بَذْلُ النفس في إظهار دين الله تعالى وتَرْكُ إظهار الكفر أفضل من إعطاء التقية فيه .
وفي هذه الآية ونظائرها دلالةٌ على أن لا ولاية للكافر على المسلم في شيء ، وأنه إذا كان له ابنٌ صغير مسلم بإسلام أمّه فلا ولاية له عليه في تصرف ولا تزويج ولا غيره . ويدلّ على أن الذميّ لا يعقل جناية المسلم ، وكذلك المسلم لا يعقل جنايته ؛ لأن ذلك من الولاية والنصرة والمعونة .