قوله عز وجل : { وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً } .
قال أبو بكر : ذكر الفراء أن الإفضاء هو الخلوة وإن لم يقع دخول . وقول الفرّاء حجة فيما يحكيه من اللغة ، فإذا كان اسم الإفضاء يقع على الخلوة فقد منعت الآية أن يأخذ منها شيئاً بعد الخلوة والطلاق ؛ لأن قوله تعالى : { وَإنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ } قد أفاد الفرقة والطلاق ، والإفضاءُ مأخوذ من الفضاء ، وهو المكان الذي ليس فيه بناء حاجز عن إدراك ما فيه ، فسُمِّيت الخلوة إفضاءً ، لزوال المانع من الوَطْءِ والدخول . ومن الناس من يقول : إن الفضاء السَّعَة ، وأفْضَى : إذا صار في المتسع مما يقصده . وجائز على هذا الوضع أيضاً أن تسمَّى الخلوة إفضاءً لوصوله بها إلى مكان الوطء واتّساع ذلك بالخلوة ، وقد كان يضيق عليه الوصول إليها قبل الخلوة ، فسميت الخلوة إفضاءً لهذا المعنى ، فأخبر تعالى أنه غير جائز له أخذ شيء مما أعطاها مع إفضاء بعضهم إلى بعض ، وهو الوصول إلى مكان الوطء وبَذْلها ذلك له وتمكينها إياه من الوصول إليها . فظاهر هذه الآية يمنع الزوج أخْذَ شيء مما أعطاها إذا كان النشوز من قِبَلِهِ ؛ لأن قوله تعالى : { وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ } يدل على أن الزوج هو المريد للفرقة دونها ، ولذلك قال أصحابنا : إن النشوز إذا كان من قِبَلِهِ يُكرهُ له أن يأخذ شيئاً من مهرها ، وإذا كان من قبلها فجائز له ذلك لقوله تعالى : { وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةً مُبَيِّنَةٍ } فقيل عن ابن عباس : " إن الفاحشة هي النشوز " ، وقال غيره : " هي الزنا " . ولقوله تعالى : { فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به } [ البقرة : 229 ] ؛ ومن الناس من يقول إنها منسوخة بقوله : { وإنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ } . وذلك غلط ؛ لأن قوله تعالى : { وَإنْ أرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ } قد أفاد حال كون النشوز من قبله ، وقوله تعالى : { إلا أن يخافا أن يقيما حدود الله } [ البقرة : 229 ] إنما فيه ذِكْرُ حال أخرى غير الأولى ، وهي الحال التي يكون النشوز منه وافتدت فيها المرأة منه ، فهذه حال غير تلك وكل واحدة من الحالين مخصوصة بحكم دون الأخرى .
وقوله تعالى : { وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً } قال الحسن وابن سيرين وقتادة والضحاك والسدي : هو قوله : { فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان } [ البقرة : 229 ] . قال قتادة : " وكان يقال للناكح في صدر الإسلام : الله عليك لتمسكن بمعروف أو لتسرحن بإحسان " . وقال مجاهد : " كلمة النكاح التي يستحل بها الفرج " . وقال غيره : هو قول النبي صلى الله عليه وسلم : " إنّما أَخَذْتُمُوهُنَّ بأَمَانَةِ اللَّهِ واسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ الله تَعالى " ؛ والله أعلم بالصواب .