باب التجارات وخيار البيع
قال الله تعالى : { يا أيّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } قال أبو بكر : قد انتظم هذا العمومُ النهْيَ عن أكل مال الغير بالباطل وأكْلِ مال نفسه بالباطل ؛ وذلك لأن قوله تعالى : { أَمْوَالَكُمْ } يقع على مال الغير ومال نفسه ، كقوله تعالى : { وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } قد اقتضى النهي عن قتل غيره وقتل نفسه ؛ فكذلك قوله تعالى : { لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالبَاطِلِ } نهيٌ لكل أحد عن أكل مال نفسه ومال غيره بالباطل . وأَكْلُ مال نفسه بالباطل إنْفَاقُه في معاصي الله ؛ وأكْلُ مال الغير بالباطل قد قيل فيه وجهان ، أحدهما : ما قال السدي وهو أن يأكل بالربا والقمار والبخس والظلم ، وقال ابن عباس والحسن : أن يأكله بغير عِوَضٍ ، فلما نزلت هذه الآية كان الرجل يتحرج أن يأكل عند أحد من الناس إلى أن نُسخ ذلك بالآية التي في النور : { ليس على الأعمى حرج } [ الفتح : 17 ] إلى قوله تعالى : { ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم } [ النور : 61 ] الآية . قال أبو بكر : يشبه أن يكون مراد ابن عباس والحسن أن الناس تحرَّجوا بعد نزول الآية أن يأكلوا عند أحد لا على أن الآية أوجبت ذلك ؛ لأن الهبات والصدقات لم تكن محظورة قَطُّ بهذه الآية ، وكذلك الأكل عند غيره اللهم إلا أن يكون المراد الأكْلُ عند غيره بغير إذنه ، فهذا لَعَمْري قد تناولته الآية . وقد روى الشعبي عن علقمة عن عبدالله قال : " هي محكمة ما نُسِخَتْ ولا تُنْسخ إلى يوم القيامة " . وروى الربيع عن الحسن قال : " ما نَسَخَها شيء من القرآن " .
ونظير ما اقتضته الآية من النهي عن أكْلِ مال الغير قوله تعالى : { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام } [ البقرة : 188 ] ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم : " لا يَحِلُّ مَالُ امْرِىءٍ مُسْلِمٍ إِلا بِطِيبَةٍ مِنْ نَفْسِهِ " . وعلى أن النهي عن أكل مال الغير معقود بصفة ، وهو أن يأكله بالباطل ؛ وقد تضمن ذلك أكل أبدال العقود الفاسدة كأثمان البياعات الفاسدة ، وكمن اشترى شيئاً من المأكول فوجده فاسداً لا ينتفع به نحو البَيْضِ والجَوْزِ ، فيكون أَكْلُ ثمنه أَكْلَ مال بالباطل ؛ وكذلك ثمن كل ما لا قيمة له ولا يُنتفع به كالقرد والخنزير والذباب والزنابير وسائر ما لا منفعة فيه ، فالانتفاع بأثمان جميع ذلك أكل مال بالباطل ، وكذلك أجرة النائحة والمغنية ، وكذلك ثمن الميتة والخمر والخنزير . وهذا يدل على أن من باع بيعاً فاسداً وأخذ ثمنه أنه مَنْهِيٌّ عن أكل ثمنه وعليه رَدُّه إلى مشتريه ، وكذلك قال أصحابنا إنه إذا تصرف فيه فربح فيه وقد كان عقد عليه بعَيِّنَةٍ وقبضه أن عليه أن يتصدق به ؛ لأنه رِبْحٌ حصل له من وجه محظور ؛ وقوله تعالى : { لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالبَاطِلِ } منتظم لهذه المعاني كلها ونظائرها من العقود المحرمة .
فإن قيل : هل اقتضى ظاهر الآية تحريم أكْلِ الهبات والصدقات والإباحة للمال من صاحبه ؟ قيل له : كل ما أباحه الله تعالى من العقود وأطلقه من جواز أكل مال الغير بإباحته إياه فخارجٌ عن حكم الآية ؛ لأن الحظر في أكْلِ المال مقيَّدٌ بشريطة وهي أن يكون أكْلَ مال بالباطل ، وما أباحه الله تعالى وأحلّه فليس بباطل بل هو حق ؛ فنحتاج أن ننظر إلى السبب الذي يستبيح أكل هذا المال ، فإن كان مباحاً فليس بباطل ولم تتناوله الآية ، وإن كان محظوراً فقد اقتضته الآية .
وأما قوله تعالى : { إلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } اقتضى إباحة سائر التجارات الواقعة عن تراض . والتجارةُ اسم واقع على عقود المعاوضات المقصود بها طلب الأرباح ، قال الله تعالى : { هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله } [ الصف : 10 و 11 ] فسمَّى الإيمانَ تجارةً على وجه المجاز تشبيهاً بالتجارات المقصود بها الأرباح . وقال تعالى : { يرجون تجارة لن تبور } [ فاطر : 29 ] . كما سمى بذل النفوس لجهاد أعداء الله تعالى شِرًى ، قال الله تعالى : { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله } [ التوبة : 111 ] فسمَّى بَذْلَ النفوس شراءً على وجه المجاز . وقال الله تعالى : { لقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون } [ البقرة : 102 ] فسمَّى ذلك بيعاً وشراءً على وجه المجاز تشبيهاً بعقود الأشْرِية والبياعات التي تحصل بها الأعواض . كذلك سمَّى الإيمانَ بالله تعالى تجارةً لما استحق به من الثواب الجزيل والأبدال الجسيمة ، فتدخل في قوله تعالى : { إلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } عقودُ البياعات والإجاراتُ والهبَاتُ المشروطة فيها الأعواض ؛ لأن المبتغى في جميع ذلك في عادات الناس تحصيل الأعواض لا غير .
ولا يسمَّى النكاح تجارةً في العُرْفِ والعادة ، إذ ليس المبتغَى منه في الأكثر الأعمّ تحصيلَ العِوَضِ الذي هو مهر ، وإنما المبتغَى فيه أحوال الزوج من الصلاح والعقل والدين والشرف والجاه ونحو ذلك ، فلم يُسَمَّ تجارة لهذا المعنى ؛ وكذلك الخلع والعتق على مال ليس يكاد يسمَّى شيءٌ من ذلك تجارة . ولما ذكرنا من اختصاص اسم التجارة بما وصفنا ، قال أبو حنيفة ومحمد : " إن المأذون له في التجارة لا يزوج أَمَتَهُ ولا عَبْدَهُ ولا يكاتب ولا يعتق على مال ولا يتزوج هو أيضاً وإن كانت أمة لا تزوج نفسها ، لأن تصرفه مقصور على التجارة وليست هذه العقود من التجارة " ؛ وقالوا : " إنه يؤاجر نفسه وعبيده وما في يده من أموال التجارة ، إذ كانت الإجارة من التجارة " ؛ وكذلك قالوا في المضارب وشريك العنان ؛ لأن تصرفهما مقصور على التجارة دون غيرها . ولم يختلف الناس أن البيوع من التجارات .
واختلف أهل العلم في لفظ البيع كيف هو ، قال أصحابنا : " إذا قال الرجل بعني عبدك هذا بألف درهم فقال قد بعتك لم يقع البيع حتى يقبل الأول " ولا يصحّ عندهم إيجاب البيع ولا قبوله إلا بلفظ الماضي ، ولا يقع بلفظ الاستقبال لأن قوله " بعني " إنما هو سَوْمٌ وأمْرٌ بالبيع وليس بإيقاع للعقد ، والأمْرُ بالبيع ليس ببيع . وكذلك قوله : " أشتري منك " ليس بشرًى وإنما هو إخبار بأنه يشتريه ؛ لأن الألف للاستقبال . وكذلك قول البائع " اشتر مني " وقوله : " أبيعك " ليس ذلك بلفظ العقد ، وإنما هو إخبار بأنه سيعقد أو أمْرٌ به . وقالوا في النكاح : " القياس أن يكون مثله " ، إلا أنهم استحسنوا فقالوا : إذا قال : " زوجني بنتك " فقال : " قد زوجتك " أنه يكون نكاحاً ولا يحتاج الزوج بعد ذلك إلى قبول ، لحديث سهل بن سعد في قصة المرأة التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يقبلها ، فقال له رجل : زوجنيها ! فراجعه النبي صلى الله عليه وسلم فيما يعطيها ، إلى أن قال له : " زَوَّجْتُكَها بِما مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ " فجعل النبي صلى الله عليه وسلم قوله : " زوجنيها " مع قوله : " زوجتكها " عَقْداً واقعاً ؛ ولأخبار آخر قد رويت في ذلك ؛ ولأنه ليس المقصد في النكاح الدخول فيه على وجه المساومة ، والعادة في مثله أنهم لا يفرقون فيه بين قوله : " زوجني " وبين قوله : " قد زوجتك " فلما جرت العادة في النكاح بما وصفنا كان قوله : " قد تزوجتك " وقوله : " زوجيني نفسك " سواء .
ولما كانت العادة في البيع دخولهم فيه على وجه السَّوْمِ بديّاً كان ذلك سَوْماً ولم يكن عقداً ، فحملوه على القياس . وقد قال أصحابنا فيما جرت به العادة بأنهم يريدون به إيجاب التمليك وإيقاع العقد إنه يقع به العقد ، وهو أن يساومه على شيء ثم يَزِنُ له الدراهم ويأخذ المبيع ، فجعلوا ذلك عقداً لوقوع تراضيهما به وتسليم كل واحد منهما إلى صاحبه ما طلبه منه ؛ وذلك لأن جَرَيانَ العادة بالشيء كالنطق به ، إذْ كان المقصد من القول الإخبار عن الضمير والاعتقاد فإذا علم ذلك بالعادة مع التسليم للمعقود عليه أَجْرَوْا ذلك مجرى العقد ، وكما يُهدي الإنسان لغيره فيقبضه فيكون قبولاً للهبة ؛ ونَحَرَ النبي صلى الله عليه وسلم بَدَنَاتٍ ثم قال : " مَنْ شَاءَ فَلْيَقْتَطِعْ " فقام الاقتطاع في ذلك مقام القبول للهبة في إيجاب التمليك . فهذه الوجوه التي ذكرناها هي طرق التراضي المشروط في قوله : { إلاّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } .
وقال مالك بن أنس : إذا قال : " بعني هذا بكذا " فقال : " قد بعتك " فقد تم البيع . وقال الشافعي : لا يصحّ النكاح حتى يقول : " قد زوجتكها " ويقول الآخر : " قد قبلت تزويجها " أو يقول الخاطب : " زوجنيها " ويقول الولي : " قد زوجتكها " فلا يحتاج في هذا إلى قول الزوج قد قبلت .
فإن قيل على ما ذكرنا من قول أصحابنا في المتساومين إذا تساوما على السلعة ثم وزن المشتري الثمن وسلمه إليه وسلم البائع السلعة إليه أن ذلك بيع وهو تجارة عن تراضٍ ، غير جائز أن يكون هذا بيعاً ؛ لأن لعقد البيع صيغة وهي الإيجاب والقبول بالقول ، وذلك معدوم فيما وصفت ؛ وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم : " أنه نهى عن بيع المنابذة والملامسة وبيع الحصاة " وما ذكرتموه في معنى هذه البياعات التي أبطلها النبي صلى الله عليه وسلم لوقوعها بغير لفظ البيع . قيل له : ليس هذا كما ظننتَ ، وليس ما أجازه أصحابنا مما نَهَى عنه النبي صلى الله عليه وسلم ؛ وذلك لأن بيع الملامسة هو وقوع العقد باللمس ، والمنابذة وقوع العقد بنبذه إليه ، وكذلك بيع الحصاة هو أن يضع عليه حصاة ؛ فتكون هذه الأفعال عندهم موجبة لوقوع البيع ، فهذه بيوع معقودة على المخاطرة ولا تعلق لهذه الأسباب التي علقوا وقوع البيع بها بعقد البيع . وأما ما أجازه أصحابُنا فهو أن يتساوما على ثمن يقف البيع عليه ثم يزن له المشتري الثمن ويسلم البائع إليه المبيع ، وتسليمُ المبيع والثمن من حقوق البيع وأحكامه ، فلما فعلا موجب العقد من التسليم صار ذلك رِضًى منهما بما وقف عليه العقد من السَّوْمِ ولَمْسُ الثوب ووَضْعُ الحصاة ونَبْذُهُ ليس من موجبات العقد ولا من أحكامه ، فصار العقد معلقاً على خطر فلا يجوز ، وصار ذلك أصلاً في امتناع وقوع البياعات على الأخطار ، وذلك أن يقول : " بعتكه إذا قدم زيد وإذا جاء غد " ونحو ذلك .
وقوله تعالى : { إلاَّ أنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } عمومٌ في إطلاق سائر التجارات وإباحتها ، وهو كقوله تعالى : { وأحل الله البيع } [ البقرة : 275 ] في اقتضاء عمومه ، لإباحة سائر البيوع إلا ما خصّه التحريم ؛ لأن اسم التجارة أعمُّ من اسم البيع ، لأن اسم التجارة ينتظم عقود الإجارات والهبات الواقعة على الأعواض والبياعات . فيضمّن قوله تعالى : { وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالبَاطِلِ } معنيين ، أحدهما : نهيٌ معقود بشريطة محتاجة إلى بيان في إيجاب حكمه ، وهو قوله تعالى : { وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالبَاطِلِ } لأنه يحتاج إلى أن يثبت أنه أكل مال باطل حتى يتناوله حكم اللفظ . والمعنى الثاني : إطلاق سائر التجارات ، وهو عموم في جميعها لا إجمال فيه ولا شريطة ، فلو خُلّينا وظاهره لأجَزْنا سائر ما يسمى تجارة ، إلا أن الله تعالى قد خصَّ منها أشياء بنصّ الكتاب وأشياء بسنّة الرسول صلى الله عليه وسلم ، فالخمرُ والميتةُ والدمُ ولحمُ الخنزير وسائرُ المحرمات في الكتاب لا يجوز بيعها لأن إطلاق لفظ التحريم يقتضي سائر وجوه الانتفاع ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لَعَنَ اللَّهُ اليَهُودَ حُرِّمَتْ عليهم الشُّحُومُ فَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا " ، وقال في الخمر : " إنّ الذي حَرَّمَهَا حَرَّمَ بَيْعَهَا وَأَكْلَ ثَمَنِهَا " ولَعَنَ بائعها ومشتريها . ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بَيْعِ الغَرَرِ وبَيْعِ الآبق وبَيْعِ ما لم يُقبض وبَيْعِ ما ليس عند الإنسان ونحوها من البياعات المجهولة والمعقودة على غرر ، جميع ذلك مخصوص من ظاهر قوله تعالى : { إلاّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } .
وقد قرىء قوله : { إلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ } بالنصب والرفع ، فمن قرأها بالنصب كان تقديره : إلاّ أن تكون الأموال تجارةً عن تراضٍ ، فتكون التجارة الواقعة عن تراضٍ مستثناة من النهي عن أكْلِ المال ، إذ كان أكْلُ المالِ بالباطل قد يكون من جهة التجارة ومن غير جهة التجارة ، فاستثنى التجارة من الجملة وبيَّن أنها ليست أكل المال بالباطل . ومن قرأها بالرفع كان تقديره : إلا أن تقع تجارةٌ ، كقول الشاعر :
* فِدَى لُبْنَى شَيْبَانِ رَحْلِي ونَاقَتِي * إذا كَانَ يَوْمٌ ذو كواكب أشْهَبُ *
يعني : إذا حدث يومٌ كذلك .
وإذا كان معناه على هذا كان النهي عن أكل المال بالباطل على إطلاقه لم يُسْتَثْنَ منه شيء ، وكان ذلك استثناء منقطعاً بمنزلة : لكن إن وقعت تجارة عن تراض فهو مباح .
وقد دلت هذه الآية على بطلان قول القائلين بتحريم المكاسب ، لإباحة الله التجارة الواقعة عن تراضٍ ، ونحوه قوله تعالى : { وأحل الله البيع } [ البقرة : 275 ] ، وقوله تعالى : { فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله } [ الجمعة : 10 ] ، وقوله تعالى : { وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله } [ المزمل : 20 ] ، فذكر الضَّرْبَ في الأرض للتجارة وطَلَبَ المعاش مع الجهاد في سبيل الله ، فدلّ ذلك على أنه مندوب إليه ؛ والله تعالى أعلم وبالله التوفيق .
باب خيار المتبايعين
اختلف أهل العلم في خيار المتبايعين ، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والحسن بن زياد ومالك بن أنس : " إذا عقد بيع بكلام فلا خيار لهما وإن لم يتفرقا " ، ورُوي نحوهُ عن عمر بن الخطاب . وقال الثوري والليث وعبيد الله بن الحسن والشافعي : " إذا عقدا فهما بالخيار ما لم يتفرقا " . وقال الأوزاعي : " هما بالخيار ما لم يتفرقا إلا في بيوع ثلاثة : بيع مزايدة الغنائم والشركة في الميراث والشركة في التجارة ، فإذا صافقه فقد وجب وليسا فيه بالخيار " . ووقت الفرقة أن يتوارى كل واحد منهما عن صاحبه ؛ وقال الليث : " التفرق أن يقوم أحدهما " . وكل من أوجب الخيار يقول : إذا خيره في المجلس فاختار فقد وجب البيع . ورُوي خيار المجلس عن ابن عمر .
قال أبو بكر : قوله تعالى : { لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالبَاطِلِ إلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } يقتضي جواز الأكل بوقوع البيع عن تراضٍ قبل الافتراق ، إذ كانت التجارة إنما هي الإيجاب والقبول في عقد البيع ، وليس التفرق والاجتماع من التجارة في شيء ولا يسمَّى ذلك تجارة في شرع ولا لغة ، فإذا كان الله قد أباح أكل ما اشترى بعد وقوع التجارة عن تراضٍ فمانع ذلك بإيجاب الخيار خارج عن ظاهر الآية مخصص لها بغير دلالة . ويدل على ذلك أيضاً قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود } [ المائدة : 1 ] ، فألزم كلَّ عاقد الوفاء بما عقد على نفسه ؛ وذلك عَقْدٌ قد عَقَدَهُ كل واحد منهما على نفسه فيلزمه الوفاء به ؛ وفي إثبات الخيار نفي للزوم الوفاء به وذلك خلاف مقتضى الآية . ويدل عليه أيضاً قوله تعالى : { إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه } [ البقرة : 282 ] إلى قوله تعالى : { إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح أن لا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم } [ البقرة : 282 ] ، ثم أمر عند عدم الشهود بأخذ الرهن وثيقةً بالثمن ، وذلك مأمور به عند عقده البيع قبل التفرق ؛ لأنه قال تعالى : { إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمًّى فاكتبوه } [ البقرة : 282 ] فأمر بالكتاب عند عقده المداينة ، وأمر بالكتابة بالعدل ، وأمر الذي عليه الدَّيْن بالإملاء ؛ وفي ذلك دليل على أن عقده المداينة قد أثبت الدين عليه بقوله تعالى : { وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئاً } [ البقرة : 282 ] فلو لم يكن عقد المداينة موجباً للحق عليه قبل الافتراق لما قال : { وليملل الذي عليه الحق } [ البقرة : 282 ] ، ولما وعظه بالبخس وهو لا شيء عليه ؛ لأن ثبوت الخيار له يمنع ثبوت الدين للبائع في ذمته ، وفي إيجاب الله تعالى الحق عليه بعقد المداينة في قوله تعالى : { وليملل الذي عليه الحق } [ البقرة : 282 ] دليل على نفي الخيار وإيجاب البتات . ثم قال تعالى : { واستشهدوا شهيدين من رجالكم } [ البقرة : 282 ] تحصيناً للمال واحتياطاً للبائع من جحود المطلوب أو موته قبل أدائه . ثم قال تعالى : { ولا تسأموا أن تكتبوه صغيراً أو كبيراً إلى أجله ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألاَّ ترتابوا } [ البقرة : 282 ] ، ولو كان لهما الخيار قبل الفرقة لم يكن في الإشهاد احتياطٌ ولا كان أقْوَمَ للشهادة ، إذْ لا يمكن للشاهد إقامة الشهادة بثبوت المال . ثم قال : { وأشهدوا إذا تبايعتم } [ البقرة : 282 ] ، و " إذا " هي للوقت ، فاقتضى ذلك الأمر بالشهادة عند وقوع التبايع من غير ذكر الفرقة ، ثم أمر برهن مقبوض في السفر بدلاً من الاحتياط بالإشهاد في الحضر . وفي إثبات الخيار إبطالُ الرهن إذ غير جائز إعطاء الرهن بدَيْنٍ لم يجب بعد ، فدلّت الآية بما تضمنته من الأمر بالإشهاد على عقد المداينة وعلى التبايع والاحتياط في تحصين المال تارةً بالإشهاد وتارةً بالرهن أن العقد قد أوجب ملك المبيع للمشتري وملك الثمن للبائع بغير خيار لهما ، إذ كان إثبات الخيار نافياً لمعاني الإشهاد والرهن ونافياً لصحة الإقرار بالدين .
فإن قيل : الأمر بالإشهاد والرهن ينصرف إلى أحد المعنيين : إما أن يكون الشهود حاضرين العقد ويفترقان بحضرتهم فتصح حينئذ شهادتهم على صحة البيع ولزوم الثمن ، وإما أن يتعاقدا فيما بينهما عقد مداينة ثم يفترقان ويقرّان عند الشهود بعد ذلك فيشهد الشهود على إقرارهما به أو يرهنه بالدين رهناً فيصح . قيل له : أول ما في ذلك أن الوجهين جميعاً خلافُ الآية وفيهما إبطال ما تضمنته من الاحتياط بالإشهاد والرهن ؛ وذلك لأن الله تعالى قال : { إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه } [ البقرة : 282 ] إلى قوله تعالى : { واستشهدوا شهيدين } [ البقرة : 282 ] ، فأمر بالإشهاد على عقد المداينة عند وقوعه بلا تراخٍ احتياطاً لهما ، وزعمتَ أنت أنه يشهد بعد الافتراق ، وجائز أن تهلك السلعة قبل الافتراق فيبطل الدين ، أو يجحده إلى أن يفترقا ويشهدا ، وجائز أن يموت فلا يصل البائع إلى تحصين ماله بالإشهاد ، وقال الله تعالى : { وأشهدوا إذا تبايعتم } [ البقرة : 282 ] فندب إلى الإشهاد على التبايع عند وقوعه ، ولم يقل : " إذا تبايعتم وتفرقتم " وموجبُ الخيار مُثْبِتٌ في الآية من التفرق ما ليس فيها ، وغير جائز أن يزاد في حكم الآية ما ليس فيها . وإن تركا الإشهاد إلى بعد الافتراق كان في ذلك ترك الاحتياط الذي من أجله ندب إلى الإشهاد ، وعسى أن يموت المشتري قبل الإشهاد أو يجحده فيصير حينئذ إيجاب الخيار مسقطاً لمعنى الاحتياط وتحصين المال بالإشهاد ، وفي ذلك دليل على وقوع البيع بالإيجاب والقبول بتاتاً لا خيار فيه لواحد منهما .
فإن قيل : فلو شرطا في البيع ثبوت الخيار لثلاث كان الإشهاد عليه صحيحاً مع شرط الخيار ، ولم يكن ما تَلَوْتَ من آية الدَّيْنِ وكَتْبِ الكتاب والإشهاد والرهن مانعاً وقوعه على شرط الخيار وصحة الإشهاد عليه ، فكذلك إثبات خيار المجلس لا ينفي صحة الشهادة والرهن . قيل له : الآية بما فيها من الإشهاد لم تتضمن البيع المشروط فيه الخيار وإنما تضمنت بيعاً باتّاً ، وإنما أجزنا شرط الخيار بدلالة خصصناه بها من جملة ما تضمنته الآية في المداينات واستعملنا حكمها في البياعات العارية من شرط الخيار ، فليس فيما أجَزْنا من البيع المعقود على شرط الخيار ما يمنع استعمال حكم الآية بما انتظمته من الاحتياط بالإشهاد والرهن وصحة إقرار العاقد في البياعات التي لم يُشْرَطْ فيها خيار ، والبيعُ المعقود على شرط الخيار خارج عن حكم الآية غير مرادٍ بها لما وَصَفْنا حتى يسقط الخيار ويتمّ البيع ، فحينئذ يكونان مَنْدُوبَيْنِ إلى الإشهاد على الإقرار دون التبايع ؛ ولو أثبتنا الخيار في كل بيع وتم البيع على حسب ما يذهب إليه مخالفونا لم يَبْقَ للآية موضع يستعمل فيه حكمها على حسب مقتضاها وموجبها . وأيضاً فإن إثبات الخيار إنما يكون مع عدم الرضى بالبيع ليرتئي في إبرام البيع أو فسخه ، فإذا تعاقدا عَقْدَ البيع مع غير شرط الخيار فكل واحد منهما راضٍ بتمليك ما عقد عليه لصاحبه ، فلا معنى لإثبات الخيار فيه مع وجود الرّضَى به ، ووجودُ الرضَى مانعٌ من الخيار ، ألا ترى أنه لا خلاف بين المثبتين لخيار المجلس أنه إذا قال لصاحبه " اختر " فاختاره ورضي به أن ذلك مبطل لخيارهما ؟ وليس في ذلك أكثر من رضاهما بإمضاء البيع ، والرضى موجود منهما بنفس المعاقدة ، فلا يحتاجان إلى رِضَى ثانٍ ؛ لأنه لو جاز أن يشترط بعد رضاهما به بدياً بالعقد رِضَى آخر لجاز أن يشترط رِضَى ثانٍ وثالثٍ ، وكان لا يمنع رضاهما به من إثبات خيار ثالث ورابع ، فلما بطل هذا صح أن رضاهما بالبيع هو إبطال للخيار وإتمام للبيع . وإنما صح خيار الشرط في البيع لأنه لم يوجد من المشروط له الخيار رضى بإخراج شيئه من ملكه حين شرط لنفسه الخيار ، ومن أجل ذلك جاز إثبات الخيار فيه .
فإن قيل : فأنت قد أثبتَّ خيار الرؤية وخيار العيب مع وجود الرضَى بالبيع ، ولم يمنع رضاهما من إثبات الخيار على هذا الوجه ، فكذلك لا يمنع رضاهما به من إثبات خيار المجلس . قيل له : ليس خيار الرؤية وخيار العيب من خيار المجلس في شيء ؛ وذلك لأن خيار الرؤية لا يمنع وقوع الملك لكل واحد منهما فيما عقد له صاحبه من جهته لوجود الرِّضَى من كل واحد منهما به ، فليس لهذا الخيار تأثير في نَفْي الملك ، بل الملكُ واقع مع وجود الخيار لأجل وجود الرضى من كل واحد منهما به ، وخيار المجلس على وقوع القائلين به مانع من وقوع الملك لكل واحد منهما فيما ملكه إياه صاحبه مع وجود الرضى من كل واحد منهما بتمليكه إياه ، ولا فرق بين الرضى به بدياً بإيجابه له العقد وبينه إذا قال : " قد رضيت فاختر " ورضي به صاحبه ؛ فلا فرق بين البيع فيما فيه خيار الرؤية وخيار العيب وبين ما ليس فيه واحد من الخيارين في باب وقوع الملك به ، وإنما يختلفان بعد ذلك في خيار غير نافٍ للملك ، وإنما هو لأجل جهالة صفات المبيع عنده أو لفَوْتِ جزء منه موجب له بالعقد .
ويدل على أن الرضى بالعقد هو الموجب للملك اتفاقُ الجميع على وقوع الملك لكل واحد منهما بعد الافتراق وبطلان الخيار به ، وقد علمنا أنه ليس في الفرقة دلالةٌ على الرضَى ولا على نَفْيِهِ ؛ لأن حكم الفرقة والبقاء في المجلس سواءٌ في نفي دلالته على الرضى ، فعلمنا أن الملك إنما وقع بالرضى بدياً بالعقد لا بالفرقة . وأيضاً فإنه ليس في الأصول فرقةٌ يتعلق بها تمليك وتصحيح العقد ، بل في الأصول أن الفرقة إنما تؤثر في فسخ كثير من العقود ، من ذلك الفرقة عن عقد الصرف قبل القبض وعن السلم قبل القبض لرأس المال وعن الدَّيْن بالدين قبل تعيين أحدهما ، فلما وجدنا الفرقة في الأصول في كثير من العقود إنما تأثيرها في إبطال العقد دون جوازه ولم نجد في الأصول فرقة مؤثرةً في تصحيح العقد وجوازه ثبت أن اعتبار خيار المجلس ووقوع الفرقة في تصحيح العقد خارج عن الأصول مع ما فيه من مخالفة ظاهر الكتاب . وأيضاً قد ثبت بالسُّنَّة واتفاق الأمّة أن من شرط صحة عقد الصرف افتراقهما عن مجلس العقد عن قبض صحيح ، فإن كان خيار المجلس ثابتاً في عقد الصرف مع التقابض والعقد لم يتم ما بقي الخيار ، فإذا افترقا لم يَجُزْ أن يصح بالافتراق ما من شأنه أن يبطله الافتراق قبل صحته ، فإذا كانا قد افترقا عنه ولما يصح بعد لم يَجُزْ أن يصحّ بالافتراق فيكون الموجب لصحته هو الموجب لبطلانه . ويدل على نفي خيار المجلس قول النبي صلى الله عليه وسلم : " لا يَحِلُّ مَالُ امْرِىءٍ مُسْلِمٍ إلا بطِيبَةٍ مِنْ نَفْسِهِ " فأحلَّ له المال بطيبة من نفسه ، وقد وجد ذلك بعقد البيع ، فوجب بمقتضى الخبر أن يحل له ؛ ودلالة الخبر على ذلك كدلالة قوله تعالى : { إلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } . ويدل عليه نهيُ النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان صاع البائع وصاع المشتري ، فأباح بيعه إذا جرى فيه الصاعان ولم يشترط فيه الافتراق ، فوجب على ذلك أن يجوز بيعه إذا اكتاله من بائعه في المجلس الذي تعاقدا فيه ؛ وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " مَنِ ابْتَاعَ طَعاماً فلا يَبِعْهُ حتَّى يَقْبِضَهُ " ، فلما أجاز بيعه بعد القبض ولم يشرط فيه الافتراق ، فوجب بقضية الخبر أنه إذا قبضه في المجلس أن يجوز بيعه ، وذلك ينفي خيار البائع لأن ما للبائع فيه خيار لا يجوز تصرف المشتري فيه . ويدل عليه أيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم : " مَنْ بَاعَ عَبْداً ولَهُ مَالٌ فمالُهُ للْبَائِعِ إلاّ أنْ يَشْتَرِطَ المُبْتَاعُ ، ومَنْ بَاعَ نَخْلاً وله ثَمَرَةٌ فَثَمَرَتُهُ للبَائِعِ إلاّ أنْ يَشْتَرِطَ المُبْتَاعُ " ، فجعل الثمرة ومال العبد للمشتري بالشرط من غير ذكر التفريق ، ومحال أن يملكها المشتري قبل ملك الأصل المعقود عليه ، فدل ذلك على وقوع الملك للمشتري بنفس العقد . ويدل عليه أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة : " لَنْ يَجْزِي وَلَدٌ وَالِدَهُ إلاّ أنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكاً فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ " ؛ واتفق الفقهاء على أنه لا يحتاج إلى استيناف عِتْقٍ بعد الشِّرَى ، وأنه متى صح له الملك عتق عليه ، فالنبي صلى الله عليه وسلم أوجب عِتْقَهُ بالشّرَى من غير شرط الفرقة . ويدل عليه من جهة النظر أن المجلس قد يطول ويقصر ، فلو علّقنا وقوع الملك على خيار المجلس لأَوْجَبَ بطلانه لجهالة مدة الخيار الذي عُلِّق عليه وقوعُ الملك ، ألا ترى أنه لو باعه بيعاً باتّاً وشرطا الخيار لهما بمقدار قعود فلان في مجلسه كان البيع باطلاً لجهالة مدة الخيار الذي تعلقت عليه صحة العقد ؟ .
واحتج القائلون بخيار المجلس بما رُوي عن ابن عمر وأبي برزة وحكيم بن حزام عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " المُتَبَايِعَانِ بالخِيَارِ ما لم يَفْتَرِقَا " . ورُوي عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إذا تَبَايَعَ المُتَبَايِعَانِ بالبَيْعِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بالخِيَارِ مِنْ بَائِعِهِ ما لم يَفْتَرِقا أو يَكُونُ بَيْعُهُما عَنْ خِيَارٍ فإذا كَانَ عَنْ خِيَارٍ فَقَدْ وَجَبَ " . وكان ابن عمر إذا بايع الرجل ولم يخيره وأراد أن لا يقيله قام فمشى هنيهة ثم رجع . فاحتج القائلون بهذه المقالة بظاهر قوله : " المتبايعان بالخيار ما لم يفترقا " ، وابن عمر هو راوي الحديث ، وقد عقل من مراد النبي صلى الله عليه وسلم فرقة الأبدان .
قال أبو بكر : فأما ما رُوي من فِعْلِ ابن عمر فلا دلالة فيه على أنه من مذهبه ، لأنه جائز أن يكون خاف أن يكون بائعه ممن يرى الخيار في المجلس فيحذر منه بذلك حذراً مما لحقه في البراءة من العيوب ، حتى خوصم إلى عثمان فحمله على خلاف رأيه ولم يجز البراءة إلا أن يبيّنه لمبتاعه . وقد رُوي عن ابن عمر ما يدل على موافقته ، وهو ما رَوَى ابن شهاب عن حمزة بن عبدالله بن عمر عن أبيه قال : " ما أدركت الصفقة حيّاً فهو من مال المبتاع " ، وهذا يدل على أنه كان يرى أن المبيع كان يدخل في ملك المشتري بالصفقة ويخرج عن ملك البائع ، وذلك ينفي الخيار .
مطلب : في قوله عليه السلام : " المتبايعان بالخيار "
وأما قوله صلى الله عليه وسلم : " المُتَبَايِعَانِ بالخِيارِ ما لم يَفْتَرِقا " ، وفي بعض الألفاظ : " البَائِعَانِ بالخِيَارِ ما لم يَفْتَرِقَا " ، فإن حقيقته تقتضي حال التبايع وهي حال السَّوْمِ ، فإذا أبرما البيع وتراضيا فقد وقع البيع ، فليسا متبايعين في هذه الحال في الحقيقة كما أن المتضارِبَيْن والمتقايلَيْن إنما يحلقهما هذا الاسم في حال التضارب والتقايل ، وبعد انقضاء الفعل لا يسمَّيان به على الإطلاق وإنما يقال كانا متقابلين ومتضاربين ؛ وإذا كانت حقيقة معنى اللفظ ما وصفنا لم يصح الاستدلال في موضع الخلاف به .
فإن قيل : هذا التأويل يؤدّي إلى إسقاط فائدة الخبر ؛ لأنه غير مُشْكِلٍ على أحد أن المتساومين قبل وجود التراضي بالعقد هما على خيارهما في إيقاع العقد أو تركه . قيل له : بل فيه أعظم الفوائد ، وهو أنه قد كان جائزاً أن يظن ظانّ أن البائع إذا قال للمشتري " قد بعتك " أن لا يكون له رجوع فيه قبل قبول المشتري ، كالعتق على مال والخلع على مال أنه ليس للمولى ولا للزوج الرجوع فيه قبل قبول العبد والمرأة ؛ فأبان النبيُّ صلى الله عليه وسلم حكم البيع في إثبات الخيار لكل واحد منهما في الرجوع قبل قبول الآخر وأنه مفارق للعتق والخلع .
فإن قيل : كيف يجوز أن يُسَمَّى المتساومان متبايعين قبل وقوع العقد بينهما ؟ قيل له : جائز إذا قصدا إلى البيع بإظهار السَّوْمِ فيه كما نسمِّي القاصِدَيْن إلى القتل متقاتِلَيْن وإن لم يقع منهما قتل بَعْدُ ، وكما قيل لولد إبراهيم عليه السلام المأمور بذبحه الذبيح لقُرْبِهِ من الذبح وإن لم يُذبح ؛ وقال تعالى : { فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف } [ الطلاق : 2 ] والمعنى فيه مقاربة البلوغ ، ألا ترى أنه قال في آية أخرى : { وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن } [ البقرة : 232 ] وأراد به حقيقة البلوغ ؟ فجائز على هذا أن يسمَّى المتساومان متبايعين إذا قصدا إيقاع العقد على النحو الذي بينا ، والذي لا يختلّ على أحد أنهما بعد وقوع البيع منهما لا يسميان متبايعين على الحقيقة كسائر الأفعال إذا انْقَضَتْ زال عن فاعليها الأسماء المشتقة لها من أفعالهم ، إلا في أسماء المدح والذم على ما بيّنا في صدر هذا الكتاب ؛ وإنما يقال كانا متبايعين وكانا متقايلين وكانا متضاربين .
ويدل على أن هذا الاسم ليس بحقيقة لهما بعد إيقاع العقد أنه قد يصح منهما الإقالة والفسخ بعد العقد وهما في الحقيقة متقايلان في حال فعل الإقالة ، وغير جائز أن يكونا متقايِلَيْنِ متفاسِخَيْن ومتبايِعَيْن في حال واحدةٍ ، فدل ذلك على أن إطلاق اسم المتبايعين عليهما إنما يتناول حال السَّوْمِ وإيقاع العقد حقيقةً ، وأن هذا الاسم إنما يلحقهما بعد انقضاء العقد على معنى أنهما كانا متبايعين وذلك مجاز ، وإذا كان كذلك وجب حَمْلُ اللفظ على الحقيقة وهي حال التبايع ، وهو أن يقول : " قد بعتك " فأطلق اسم البيع من قِبَلِ نفسه قبل قبول الآخر ، فهذه هي الحال التي هما متبايعان فيها وهي حال ثبوت الخيار لكل واحد منهما فللبائع الخيار في الفسخ قبل قبول الآخر وللمشتري الخيار في القبول قبل الافتراق . ويدلك على أن المراد هذه الحال قوله : " المتبايعان " وإنما البائع أحدهما وهو صاحب السلعة ، فكأنه قال : إذا قال البائع قد بعت فهما بالخيار قبل الافتراق ؛ لأنه معلوم أن المشتري ليس ببائع ، فثبت أن المراد : إذا باع البائع قبل قبول المشتري .
وقد اختلف الفقهاء في تأويل قوله صلى الله عليه وسلم : " المُتَبَايِعَانِ بالخِيَارِ ما لم يَفْتَرِقَا " فرُوي عن محمد بن الحسن أن معناه : إذا قال البائع قد بعتك فله أن يرجع ما لم يقل المشتري قبلت ، قال : وهو قول أبي حنيفة . وعن أبي يوسف : " هما المتساومان ، فإذا قال بعتك بعشرة فللمشتري خيار القبول في المجلس وللبائع خيار الرجوع فيه قبل قبول المشتري ، ومتى قام أحدهما قبل قبول البيع بطل الخيار الذي كان لهما ولم تكن لواحد منهما إجازته " ، فحمله محمد على الافتراق بالقول وذلك سائغ ، قال الله تعالى : { وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة } [ البينة : 4 ] ، ويقال : تشاور القوم في كذا فافترقوا عن كذا ، يراد به الاجتماع على قول والرضى به وإن كانوا مجتمعين في المجلس . ويدل على أن المراد الافتراق بالقول ، ما حدثنا محمد بن بكر البصري قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا قتيبة قال : حدثنا الليث عن محمد بن عجلان عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبدالله بن عمرو بن العاص ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " المُتَبَايِعَانِ بالخِيَارِ ما لم يَتَفَرَّقَا إلاّ أنْ تَكُونَ صَفْقَةَ خِيَارٍ ، ولا يَحلُّ له أن يُفَارِقَ صَاحِبَهُ خَشْيَةَ أنْ يَسْتَقِيلَهُ " . وقوله : " المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا " هو على الافتراق بالقول ، ألا ترى أنه قال : " ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله " ؟ وهذا هو افتراق الأبدان بعد الافتراق بالقول وصحة وقوع العقد به ، والاستقالة هو مسألته الإقالة ؛ وهذا يدل من وجهين على نفي الخيار بعد وقوع العقد ، أحدهما : أنه لو كان له خيار المجلس لما احتاج إلى أن يسأله الإقالة بل كان هو يفسخه بحق الخيار الذي له فيه ، والثاني : أن الإقالة لا تكون إلا بعد صحة العقد وحصول ملك كل واحد منهما فيما عقد عليه من قِبَلِ صاحبه ، فهذا أيضاً يدل على نفي الخيار وصحة البيع . وقوله : " ولا يحل له أن يفارقه " يدلّ على أنه مندوب إلى إقالته إذا سأله إياها ما داما في المجلس مكروه له أن لا يجيبه إليها ، وأن حكمه في ذلك بعد الافتراق مخالفٌ له إذا لم يفارقه في أنه لا يُكْرَهُ له ترك إجابته إلى الإقالة بعد الفرقة ويُكْرَهُ له قبلها . ويدل عليه ما حدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا علي بن أحمد الأزدي قال : حدثنا إسماعيل بن عبدالله بن زرارة قال : حدثنا هشيم عن يحيى بن سعيد عن نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " البَيِّعَانِ لا بَيْعَ بَيْنَهُما إلاّ أنْ يَفْتَرِقَا إلا بَيْعَ الخِيَارِ " . وحدثنا عبدالباقي قال : حدثنا معاذ بن المثنى قال : حدثنا القعنبي قال : حدثنا عبدالعزيز بن مسلم القسلمي عن عبدالله بن دينار عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كلُّ بَيِّعَيْنِ لا بَيْعَ بَيْنَهُما حتّى يَفْتَرِقَا " ، فأخبر عليه السلام أن كل بَيِّعَيْن لا بَيْعَ بينهما إلا بعد الافتراق ، وهذا يدل على أنه أراد بنفيه البيع بينهما في حال السَّوْمِ ؛ وذلك لأنهما لو كانا قد تبايعا لم يَنْفِ النبي صلى الله عليه وسلم تبايعهما مع صحة العقد ووقوعه فيما بينهما ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا ينفي ما قد أثبت ؛ فعلمنا أن المراد المتساومان اللذان قد قصدا إلى التبايع وأوجب البائع البيع للمشتري وقصد المشتري إلى شرائه منه بأن قال له " بعني " فنفى أن يكون بينهما بيع حتى يفترقا بالقول والقبول ، إذ لم يكن قوله " بعني " قبولاً للعقد ولا من ألفاظ البيع وإنما هو أمْرٌ به ، فإذا قال " قد قبلتُ " وقع البيع ؛ فهذا هو الافتراق الذي أراده النبي صلى الله عليه وسلم على القول الذي قدمنا ذكر نظائره في إطلاق ذلك في اللسان .
فإن قيل : ما أنكرت أن يكون مراد النبي صلى الله عليه وسلم عن نفيه البيع حال إيقاع البيع بالإيجاب والقبول ؟ وإنما نفى أن يكون بينهما بيع لما لهما فيه من خيار المجلس . قيل له : هذا غلط ، مِنْ قِبَل أن ثبوت الخيار لا يوجب نَفْيَ اسم البيع عنه ، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أثبت بينهما البيع إذا شرطا فيه الخيار بعد الافتراق ولم يكن ثبوت الخيار فيه موجباً لنفي اسم البيع عنه لأنه قال : " كل بَيِّعَيْنِ فلا بَيْعَ بينهما حَتَّى يَفْتَرِقَا إلا بَيْعَ الخِيَارِ " ؟ فجعل بيع الخيار بيعاً ، فلو أراد بقوله : " كل بيعين فلا بيع بينهما حتى يفترقا " حال وقوع الإيجاب والقبول لما نَفَى البيع بينهما لأجل خيار المجلس كما لم ينفه إذا كان فيه خيار مشروط بل أثبته وجعله بيعاً ؛ فدل ذلك على أن قوله : " كل بيعين فلا بيع بينهما حتى يفترقا " إنما أراد به المتساومين في البيع ، وأفاد ذلك أن قوله : " اشتر مني " أو قول المشتري " بعني " ليس ببيع حتى يفترقا بأن يقول البائع " قد بعت " ويقول المشتري " قد اشتريت " فيكونا قد افترقا وتم البيع ، ووجب أن لا يكون فيه خيار مشروط فيكون ذلك بيعاً وإن لم يفترقا بأبدانهما بعد حصول الافتراق فيهما بالإيجاب والقبول . وأكثر أحوال ما رُوي من قوله : " المتبايعان بالخيار ما لم يفترقا " احتماله لما وَصَفْنا ولِمَا قال مخالفنا ؛ وغير جائز الاعتراض على ظاهر القرآن بالاحتمال بل الواجب حمل الحديث على موافقة القرآن ولا يحمل على ما يخالفه .
ويدل من جهة النظر على ما وصفنا اتفاقُ الجميع على أن النكاح والخلع والعتق على مال والصلح من دم العمد إذا تعاقداه بينهما صحَّ بالإيجاب والقبول من غير خيار يثبت لواحد منهما ، والمعنى فيه الإيجاب والقبول فيما يصح العقد عليه من غير خيار مشروط .
وقوله عز وجل : { وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } قال عطاء والسدي : " لا يقتل بعضكم بعضاً " . قال أبو بكر : هو نظير قوله تعالى : { ولا تقتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقتلوكم فيه } [ البقرة : 191 ] ومعناه : يقتلوا بعضكم . وتقول العرب : قُتِلْنا وَرَبِّ الكعبة ، إذا قُتِلَ بعضهم . وقيل : إنما حسن ذلك لأنهم أهل دِينٍ واحد فهم كالنفس الواحدة ، فلذلك قال : { وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } وأراد قتل بعضكم بعضاً . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم : " إنّ المُؤمِنينَ كالنَّفْسِ الوَاحِدَةِ إذا أَلِمَ بَعْضُهُ تَدَاعَى سَائِرُهُ بالحُمَّى والسَّهَرِ " ، وقال : " المُؤْمِنُونَ كالبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضاً " . فكان تقديره : ولا يقتل بعضكم بعضاً في أكل أموالكم بالباطل ولا غيره مما هو محرم عليكم ، وهو كقوله تعالى : { فإذا دخلتم بيوتاً فسلموا على أنفسكم } [ النور : 61 ] . ويحتمل : ولا تقتلوا أنفسكم في طلب المال ؛ وذلك بأن يحمل نفسه على الغَرَرِ المؤدّي إلى التلف . ويحتمل : ولا تقتلوا أنفسكم في حال غضب أو ضجر . وجائز أن تكون هذه المعاني كلها مرادة لاحتمال اللفظ لها .