باب بِرِّ الوالدين
قال الله تعالى : { واعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالوَالِدَيْنِ إحْسَاناً } فقرن تعالى ذكره إلزامَ بِرِّ الوالدين بعبادته وتوحيده وأمر به كما أمر بهما ، كما قرن شكرهما بشكره في قوله تعالى : { أن اشكر لي ولوالديك إليّ المصير } [ لقمان : 14 ] ، وكفى بذلك دلالةً على تعظيم حقهما ووجوب بِرِّهما والإحسان إليهما . وقال تعالى : { ولا تقل لهما أفّ ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً } [ الإسراء : 23 ] إلى آخر القصة . وقال تعالى : { ووصينا الإنسان بوالديه حسناً } [ العنكبوت : 8 ] . وقال في الوالدين الكافرين : { وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً } [ لقمان : 15 ] . ورَوَى عبدالله بن أنيس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أَكْبَرُ الكَبَائِرِ الإِشْرَاكُ بالله وعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ وَاليَمِينُ الغَمُوسُ ، والذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لا يَحْلِفُ أحَدٌ وإن كانَ على مِثْلِ جَنَاحِ البَعُوضَةِ إلا كانَتْ وَكْتَةً فِي قَلْبِهِ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ ! " .
قال أبو بكر : فطاعة الوالدين واجبة في المعروف لا في معصية الله ، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق .
وقد حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا سعيد بن منصور قال : حدثنا عبدالله بن وهب قال : أخبرني عمرو بن الحارث أن درّاجاً أبا السَّمْح حدثه عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري : أن رجلاً من اليمنِ هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : " هَلْ لَكَ أحَدٌ باليَمَنِ ؟ " قال : أبواي : قال : " أذِنَا لَكَ ؟ " قال : لا ، قال : " ارْجِعْ إلَيْهِمَا فاسْتَأذِنْهُما فإنْ أَذِنَا لَكَ فَجَاهِدْ وإلا فَبَرَّهُما " . ومن أجل ذلك قال أصحابنا : لا يجوز أن يجاهد إلا بإذن الأبوين إذا قام بجهاد العدوّ من قد كفاه الخروج ، قالوا : فإن لم يكن بإزاء العدوّ مَنْ قد قام بفرض الخروج فعليه الخروج بغير إذن أبويه ، وقالوا في الخروج في التجارة ونحوها فيما ليس فيه قتال : لا بأس به بغير إذنهما ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما منعه من الجهاد إلا بإذن الأبوين إذا قام بالفرض غيره ، لما فيه من التعرُّض للقتل وفجِيعَةِ الأبوين به ، فأما التجارات والتصرف في المباحات التي ليس فيها تعرُّضٌ للقتل فليس للأبوين مَنْعه منها ؛ فلذلك لم يَحْتَجْ إلى استئذانهما . ومن أجل ما أكّد الله تعالى من تعظيم حق الأبوين قال أصحابنا : لا ينبغي للرجل أن يقتل أباه الكافر إذا كان محارباً للمسلمين ، لقوله تعالى : { ولا تقل لهما أفّ } [ الإسراء : 23 ] وقوله تعالى : { وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً } [ لقمان : 15 ] ، فأمر تعالى بمصاحبتهما بالمعروف في الحال التي يجاهدانه فيها على الكفر ، ومن المعروف أن لا يُشْهِرَ عليهما سلاحاً ولا يقتلهما إلا أن يُضطرَّ إلى ذلك بأن يخاف أن يقتله إن ترك قتله ، فحينئذٍ يجوز قتله لأنه إن لم يفعل ذلك كان قد قَتَلَ نفسه بتمكينه غيره منه ، وهو منهيٌّ عن تمكين غيره من قتله كما هو منهيٌّ عن قتل نفسه ، فجاز له حينئذٍ من أجل ذلك قتله . وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم : " أنه نَهَى حنظلة بن أبي عامر الراهب عن قتل أبيه وكان مشركاً " . وقال أصحابنا في المسلم يموت أبواه وهما كافران : إنه يغسلهما ويتبعهما ويدفنهما ؛ لأن ذلك من الصحبة بالمعروف التي أمره الله بها .
فإن قال قائل : ما معنى قوله تعالى : { وَبِالوَالِدَيْنِ إحْسَاناً } وما ضميره ؟ قيل له : يحتمل : استوصوا بالوالدين إحساناً ، ويحتمل : وأحسنوا بالوالدين إحساناً .
وقوله تعالى : { وَبِذِي القُرْبَى } أمْرٌ بصلة الرَّحِمِ والإحسان إلى القرابة ، على نحو ما ذكره في أول السورة في قوله تعالى : { والأرحام } ، فبدأ تعالى في أول الآية بتوحيده وعبادته ، إذ كان ذلك هو الأصل الذي به يصح سائر الشرائع والنبوات وبحصوله يُتَوَصَّل إلى سائر مصالح الدين ، ثم ذكر تعالى ما يجب للأبوين من الإحسان إليهما وقضاء حقوقهما وتعظيمها ، ثم ذكر الجار ذا القربى وهو قريبك المؤمن الذي له حق القرابة وأوجب له الدين الموالاة والنصرة ، ثم ذكر الجار الجنب وهو البعيد منك نسباً إذا كان مؤمناً فيجتمع حقّ الجوار وما أوجبه له الدين بعصمة الملّة وذمة عقد النِّحْلَة . ورُوي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك قالوا : " الجار ذو القربى القريب في النسب " . ورُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " الجِيرَانُ ثَلاَثَةٌ : فَجَارٌ لَهُ ثَلاثَةُ حُقُوقٍ حَقُّ الجِوَارِ وَحَقُّ القَرَابَةِ وحَقُّ الإِسْلامِ ، وجَارٌ له حَقَّانِ حَقُّ الجِوَارِ وَحَقُّ الإسْلامِ ، وجَارٌ له حَقُّ الجِوَارِ المُشْرِكُ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ " .
وقوله تعالى : { والصَّاحِبِ بالجَنْبِ } رُوي فيه عن ابن عباس في إحدى الروايتين وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد وقتادة والسدي والضحاك : " أنه الرفيق في السفر " . ورُوي عن عبدالله بن مسعود وإبراهيم وابن أبي ليلى : " أنه الزوجة " ، ورواية أخرى عن ابن عباس : " أنه المنقطع إليك رَجَاءَ خيرك " . وقيل : " هو جار البيت دانياً كان نسبه أو نائياً إذا كان مؤمناً " .
قال أبو بكر : لما كان اللفظ مُحْتَمِلاً لجميع ذلك وجب حَمْلُهُ عليه وأن لا يُخَصَّ منه شيءٌ بغير دلالة ، وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ما زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بالجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ " . وروى سفيان عن عمرو بن دينار عن نافع بن جبير بن مطعم عن أبي شريح الخزاعي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بالله واليَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ ، ومَنْ كَانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ ، ومَنْ كَانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْراً أو لِيَصْمُتْ " . ورَوَى عبيد الله الوصافي عن أبي جعفر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما آمَنَ مَنْ أمْسَى شَبْعَانَ وأَمْسَى جَارُهُ جائعاً " . ورَوَى عمر بن هارون الأنصاري عن أبيه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ سُوءُ الجِوَارِ وقَطِيعَةُ الأَرْحَامِ وتَعْطِيلُ الجِهَادِ " . وقد كانت العربُ في الجاهلية تعظّم الجوار وتحافظ على حفظه وتوجب فيه ما توجب في القرابة ، قال زهير :
* وجَارُ البَيْتِ والرّجُلُ المنادِي * أمَامَ الحيِّ عَقْدُهُما سَوَاءُ *
يريد بالرجل المنادي من كان معك في النادي ، وهو مجلس الحيّ . وقال بعض أهل العلم : معنى الصاحب بالجَنْبِ أنه الجار الذي يلاصق دارُهُ دارَهُ ، وإنَّ الله خصه بالذكر تأكيداً لحقه على الجار غير الملاصق . وقد حدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا أبو عمر ومحمد بن عثمان القرشي ورّاق أحمد بن يونس قال : حدثنا إسماعيل بن مسلم قال : حدثنا عبدالسلام بن حرب عن أبي خالد الدالاني عن أبي العلاء الأزدي عن حميد بن عبدالرحمن الحِمْيري عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا اجتمع الداعيان فأجِبْ أقْرَبَهُما باباً ، فإنّ أقْرَبَهُما باباً أقْرَبُهما جواراً ، وإذا سبق أحدهما فابدأ بالذي سبق " . وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم : " أن أربعين داراً جوارٌ " . وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا الحسن بن شبيب المعمري قال : حدثنا محمد بن مصفّى قال : حدثنا يوسف بن السفر عن الأوزاعي عن يونس عن الزهري قال : حدثني عبدالرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه قال : " أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم رجلٌ فقال : إني نزلت بمحلة بني فلان وإنّ أشدّهم لي أذًى أقربهم من جِواري ؛ فبعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر وعليّاً أن يأتوا باب المسجد فيقوموا على بابه فيصيحوا ثلاثاً ألا إنّ أربعين داراً جوارٌ ولا يدخل الجنة من خاف جاره بوائِقَه " قال : قلت للزهري : يا أبا بكر أربعين داراً ؟ قال : أربعين هكذا وأربعين هكذا . وقد جعل الله الاجتماع في مدينة جواراً ، قال الله تعالى : { لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلاً } [ الأحزاب : 60 ] فجعل تعالى اجتماعهم معه في المدينة جواراً .
والإحسان الذي ذكره الله تعالى يكون من وجوه : منها المواساة للفقير منهم إذا خاف عليه الضرر الشديد من جهة الجوع والعُرْي ، ومنها حسن العشرة وكفّ الأذى عنه والمحاماة دونه ممن يحاول ظلمه وما يتبع ذلك من مكارم الأخلاق وجميل الفعال . ومما أوجب الله تعالى من حقّ الجوار الشفعة لمن بِيعَتْ دارٌ إلى جنبه ؛ والله الموفق .
ذكر الخلاف في الشفعة بالجوار
قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر : " الشريك في المبيع أحقُّ من الشريك في الطريق ، ثم الشريك في الطريق أحقُّ من الجار الملازق ، ثم الجار الملازق بعدهما " ، وهو قول ابن شبرمة والثوري والحسن بن صالح . وقال مالك والشافعي : " لا شفعة إلا في مشاع ، ولا شفعة في بئر لا بياض لها ولا تحتمل القَسْم " . وقد رُوي وجوبُ الشفعة للجار عن جماعة من السلف ، رُوي عن عمر وعن أبي بكر بن أبي حفص بن عمر قال : قال شريح : كتب إليّ عمرُ أن أقضي بالشفعة للجار " . وروى عاصم عن الشعبي عن شريح قال : " الشريك أحَقّ من الخليط ، والخليطُ أحقّ من الجار ، والجارُ أحقّ ممن سواه " . وروى أيوب عن محمد قال : " كان يقال الشريك أحَقُّ من الخليط ، والخليطُ أحقُّ ممن سواه " . وقال إبراهيم : " إذا لم يكن شريكٌ فالجار أحقُّ بالشفعة " . وقال طاوس مثل ذلك . وقال إبراهيم بن ميسرة : كتب إلينا عمر بن عبدالعزيز : " إذا حُدَّتِ الحدود فلا شفعة " ، وقال طاوس : " الجار أحقُّ " .
والذي يدل على وجوب الشفعة للجار ما رَوَى حسين المعلم عن عمرو بن شعيب عن عمرو بن الشريد عن أبيه قال : قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أرض ليس لأحد فيها شريك إلا الجار ؟ فقال : " الجَارُ أحَقُّ بسَقَبِهِ ما كَانَ " . وروى سفيان عن إبراهيم بن ميسرة عن عمرو بن الشريد عن أبي رافع عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " الجَارُ أحَقُّ بسَقَبِهِ " . وَرَوَى أبو حنيفة قال : حدثنا عبدالكريم عن المِسْوَرِ بن مخرمة عن رافع بن خديج قال : عرض سَعْدٌ بيتاً له ، فقال : خذه فإني قد أُعطيت به أكثر مما تعطيني ولكنك أحقّ به ؛ لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " الجَارُ أحَقُّ بسَقَبِهِ " . وروى أبو الزبير عن جابر قال : " قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة بالجوار " . وروى عبدالملك بن أبي سليمان عن عطاء عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الجَارُ أحَقُّ بسَقَبِهِ ينتظِرُ بِهِ وإنْ كَانَ غَائِباً إذا كانَ طَرِيقُهُما واحداً " . وروى ابن أبي ليلى عن نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الجَارُ أحَقُّ بسَقَبِهِ ما كانَ " . ورَوَى قتادة عن الحسن عن سَمُرَةَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : جَارُ الدّارِ أَحَقُّ بِشُفْعَةِ الجَارِ " ؛ وقتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " جَارُ الدّارِ أحَقُّ بالدّارِ " . ورَوَى سفيان عن منصور عن الحكم قال : حدثني من سمع عليّاً وعبدالله يقولان : " قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجوار " ، ويونس عن الحسن قال : " قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجوار " .
فاتفق هؤلاء الجماعة على الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وما نعلم أحداً دفع هذه الأخبار مع شيوعها واستفاضتها في الأمّة ، فمن عدل عن القول بها كان تاركاً للسنّة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم .
واحتجّ من أبَى ذلك بما رَوَى أبو عاصم النبيل قال : حدثنا مالك عن الزهري عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبدالرحمن عن أبي هريرة قال : " قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة فيما لم يقسم ، فإذا وقعت الحدود فلا شفعة " ؛ وكذلك رواه عن مالك أبو قتيلة المدني وعبدالملك بن عبدالعزيز الماجشون . وهذا الحديث رواه هؤلاء موصولاً عن أبي هريرة وأصْلُه عن سعيد بن المسيب مقطوع ، رواه مَعْنٌ ووكيع والقعنبي وابن وهب كلهم عن مالك عن الزهري عن سعيد بن المسيب من غير ذِكْرِ أبي هريرة ، وكذلك هو في موطأ مالك . ولو ثبت موصولاً لما جاز الاعتراض به على الأخبار التي رواها نحوُ عَشْرَةٍ من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم في إيجاب الشفعة للجار ، لأنها في حَيِّزِ المتواتر المستفيض الذي لا تجوز معارضته بأخبار الآحاد . ولو ثبت من وجوه يجوز أن يعارض به ما قدمنا ذكره لم يكن فيه ما ينفي أخبار إيجاب الشفعة للجار ؛ وذلك لأن أكثر ما فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَضَى بالشفعة فيما لم يقسم ، ثم قال : " فإذا وَقَعَتِ الحُدُودُ فلا شُفْعَةَ " ، فأما قوله : " قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة فيما لم يقسم " فإنه متفق على استعماله في إيجاب الشفعة للشريك ، ومع ذلك فهو حكاية قَضِيَّةٍ من النبي صلى الله عليه وسلم قَضَى بها ، وليس بعموم لفظ ولا حكاية قول منه . وأما قوله : " فإذا وَقَعَتِ الحدُودُ فلا شُفْعَةَ " فإنه يحتمل أن يكون من كلام الراوي ، إذ ليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله ، ولا أنه قضى به ؛ وإذا احتمل أن تكون رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم واحتمل أن يكون من قول الراوي أدرجه في الحديث ، كما وُجد ذلك في كثير من الأخبار ، لم يَجُزْ لنا إثباته عن النبي صلى الله عليه وسلم ، إذ غير جائز لأحد أن يَعْزي إلى النبي صلى الله عليه وسلم مقالةً بالشك والاحتمال ؛ فهذا وجه منع الاعتراض به على ما ذكرنا .
واحتجوا أيضاً بما حدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا حامد بن محمد المردف قال : حدثنا عبيدالله بن عمر القواريري قال : حدثنا عبدالواحد بن زياد قال : حدثنا معمر عن الزهري عن أبي سلمة بن عبدالرحمن عن جابر بن عبدالله قال : " قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة فيما لم يقسم ، فإذا وقعت الحدود وصُرفت الطرق فلا شفعة " . وهذا لا دلالة فيه على نفي الشفعة بالجوار من وجهين ، أحدهما : أنه إنما نَفَى وجوب الشفعة إذا وقعت الحدود وصرفت الطرق ، فأفاد بذلك نفي الشفعة لغير الجار الملاصق ؛ لأن صَرْفَ الطرق ينفي الملاصقة ، لأن بينه وبين جاره طريقاً . والثاني : أنا متى حملناه على حقيقته كان الذي يقتضيه اللفظ نفي الشفعة عند وقوع الحدود وصرف الطرق ، ووقوعُ الحدود وصرف الطرق إنما هو القسمة ، فكأنه إنما أفاد أن القسمة لا شفعة فيها ، كما قال أصحابنا إنه لا شفعة في قسمة ؛ وكذلك الحديث الأول محمول على ذلك أيضاً . وأيضاً فقد رَوَى عبدالملك بن أبي سليمان عن عطاء عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " الجارُ أحقّ بصَقَبِهِ ينتظرُ به وإن كان غائباً إذا كان طَرِيقُهُما واحداً " . فهذان الخبران قد رُويا عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وغير جائز أن نجعلهما متعارضين مع إمكان استعمالهما جميعاً ؛ وقد يمكننا استعمالهما على الوجه الذي ذكرنا ، ومخالفونا يجعلونهما متعارضين ويسقطون أحدهما بالآخر .
مطلب : إذا خرج الكلام على سبب فلا مفهوم له عند الفقهاء
وأيضاً جائز أن يكون ذلك كلاماً خرج على سبب ، فنقل الراوي لَفْظَ النبي صلى الله عليه وسلم وترك نقل السبب ، نحو أن يختصم إليه رجلان أحدهما جارٌ والآخر شريك ، فيحكم بالشفعة للشريك دون الجار ؛ وقال : فإذا وقعت الحدود فلا شفعة لصاحب النصيب المقسوم مع الجار ؛ كما رَوَى أسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا رِبَا إلاّ في النَّسِيئَةِ " وهو عند سائر الفقهاء كلامٌ خارج على سبب اقتصر فيه راوِيهِ على نقل قول النبي صلى الله عليه وسلم دون ذكر السبب ، وهو أن يكون سئل عن النوعين المختلفين من الذهب والفضة إذا بِيعَ أحدُهما بالآخر ، فقال صلى الله عليه وسلم : " لا ربا إلا في النسيئة " يعني فيما سئل عنه ؛ كذلك ما ذكرنا .
وأيضاً لو تساوت أخبار إيجاب الشفعة بالجوار وأخبار نفيها ، لكانت أخبار الإيجاب أوْلى من أخبار النفي ؛ لأن الأصل أنها غير واجبة حتى يَرِدَ الشرع بإيجابها ، فخبر نَفْي الشفعة واردٌ على الأصل وخبر إثباتها ناقلٌ عنه واردٌ بعده فهو أوْلى .
فإن قيل : يحتمل أن يريد بالجار الشريك . قيل له : هذه الأخبار التي رويناها أكثرها ينفي هذا التأويل ؛ لأن فيها أن جار الدار أحقّ بشفعة داره ، والشريكُ لا يسمَّى جارَ الدار ؛ وحديث جابر قال فيه : " ينتظر به وإن كان غائباً إذا كان طريقهما واحداً " وغير جائز أن يكون هذا في الشريك في المبيع . وأيضاً فإن الشريك لا يسمَّى جاراً ؛ لأنه لو استحق اسم الجوار بالشركة لوجب أن يكون كل شريكين في شيء جارين ، كالشريكين في عبد واحد ودابة واحدة ، فلما لم يستحقّ اسم الجار بالشركة في هذه الأشياء دلّ ذلك على أن الشريك لا يسمَّى جاراً ، وإنما الجارُ هو الذي ينفرد حقه ونصيبه من حق الشريك ويتميز ملك كل واحد عن ملك صاحبه . وأيضاً فإن الشركة إنما تستحق بها الشفعة لأنها تقتضي حصول الجوار بالقسمة ؛ والدليل عليه أن الشركة في سائر الأشياء لا توجب الشفعة لعدم حصول الجوار بها عند القسمة ، فدل ذلك على أن الشركة في العَقَارِ إنما تستحق بها الشفعة لما يتعلق بها من الجوار عند القسمة ، وإن كان الشريك أحقَّ من الجار لمزيَّةٍ حصلت له مع تعلق حق الجوار بالقسمة . والدليل عليه أن الشركة في سائر الأشياء لا توجب الشفعة لعدم حصول الجوار بها ، كما أن الأخ من الأب والأمّ أوْلى بالميراث من الأخ من الأب ، وإن كانت الأخُوَّةُ من جهة الأب يستحقّ بها التعصيب والميراث إذا لم يكن أخ لأب وأمّ ، ومعلوم أن القرابة من جهة الأم لا يستحق بها التعصيب إذْ لم تكن هناك قرابة من جهة الأب ، إلا أنها أكّدت تعصيب القرابة من الأب ؛ كذلك الشريك إنما يستحق الشفعة بالشركة لما تعلق بها من حصول الجوار عند القسمة ، والشريك أوْلى من الجار لمزية حصلت له كما وصفنا بالتعصيب ، ويكون المعنى الذي يتعلق به وجوب الشفعة هو الجوار . وأيضاً لما كان المعنى الذي به وجبت الشفعة بالشركة هو دوام التأذّي بالشريك ، وكان ذلك موجوداً في الجوار لأنه يتأذّى به في الإشراف عليه ومطالعة أموره والوقوف على أحواله ، وجب أن تكون له الشفعة لوجود المعنى الذي من أجله وجبت الشفعة للشريك ؛ وهذا المعنى غير موجود في الجار غير الملاصق لأن بينه وبينه طريقاً يمنعه التشرف عليه والاطّلاع على أموره .
وأما قوله تعالى : { وَابْنِ السَّبِيلِ } ، فإنه رُوي عن مجاهد والربيع بن أنس أنه المسافر ؛ وقال قتادة والضحاك : " هو الضيف " . قال أبو بكر : ومعناه صاحب الطريق ؛ وهذا كما يقال لطير الماء ابْنَ ماءٍ ، قال الشاعر :
* وَرَدْتُ اعْتِسَافاً والثريَّا كأنّها * على قِمَّةِ الرَّأسِ ابنُ مَاءٍ مُحَلِّقُ *
ومن تأوله على الضيف فقوله سائغ أيضاً ؛ لأن الضيف كالمجتاز غير المقيم ، فسمِّي ابنَ السبيل تشبيهاً بالمسافر المجتاز ، وهو كما يقال عابر السبيل . وقال الشافعي : " ابن السبيل هو الذي يريد السفر وليس معه نفقته " وهذا غلط ؛ لأنه ما لم يَصِرْ في الطريق لا يسمَّى ابنَ السبيل كما لا يسمَّى مسافراً ولا عابر سبيل .
وقوله عز وجل : { وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } يعني الإحسان المأمورَ به في أول الآية . وروى سليمان التيمّي عن قتادة عن أنس قال : " كانت عامة وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة وما ملكت أيمانكم حتى جعل يغرغر بها في صدره وما يقبض بها لسانه " ، وروته أيضاً أم سلمة . ورَوَى الأعمش عن طلحة بن مصرف عن أبي عمارة عن عمرو بن شرحبيل قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الغَنَمُ بَرَكَةٌ ، والإبلُ عِزٌّ لأهْلِهَا ، والخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيها الخَيْرُ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ ، والمَمْلُوكُ أَخُوكَ فأَحْسِنْ إلَيْهِ فإنْ وَجَدْتَهُ مَغْلُوباً فَأَعِنْهُ " . ورَوَى مُرّة الطيب عن أبي بكر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لاَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ سَيِّءُ المَلَكَةِ " قيل : يا رسول الله أليس قد حدثتنا أن هذه الأمّة أكثر الأمم مملوكين وأتباعاً ؟ قال : " بَلَى ، فأكْرِمُوهُمْ كَكَرَامَةِ أَوْلاَدِكُمْ وَأَطْعِمُوهُمْ مما تَأْكُلُونَ " . ورَوَى الأعمش عن المعرور بن سويد قال : مررت على أبي ذر وهو بالربذة ، فسمعته يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " المَمَالِيكُ هُمْ إخْوَانُكُمْ وَلَكِنَّ الله تَعَالَى خَوَّلَكُمْ إيّاهُمْ ، فَأَطْعِمُوهُمْ مما تَأْكُلُونَ وأَلْبِسُوهُمْ مما تَلْبِسُونَ " .