قوله تعالى : { إنّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا } . روي عن الحسن وقتادة وعكرمة والزهري والسدي ، أنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم مرادٌ بقوله : { يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا } . قال أبو بكر : وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم حكم على الزانيين منهم بالرجم وقال : " اللَّهُمَّ إنّي أوّلُ مَنْ أَحْيَا سُنَّةً أمَاتُوها " وكان ذلك في حكم التوراة ؛ وحكم فيه بتساوي الديات وكان ذلك أيضاً حكم التوراة ؛ وهذا يدلّ على أنه حكم عليهم بحكم التوراة لا بحكم مبتدأ شريعة .
وقوله تعالى : { وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ } قال ابن عباس : " شهداء على حكم النبي صلى الله عليه وسلم أنه في التوراة " . وقال غيره : " شهداء على ذلك الحكم أنه من عند الله " .
وقال عز وجل : { فَلاَ تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ } . قال فيه السدي : " لا تخشوهم في كتمان ما أنزلت " . وقيل : لا تخشوهم في الحكم بغير ما أنزلت . وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا الحارث بن أبي أسامة : حدثنا أبو عبيد القاسم بن سلام : حدثنا عبدالرحمن بن مهدي عن حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن قال : " إن الله تعالى أخذ على الحكّام ثلاثاً : أن لا يتّبعوا الهوى ، وأن يخشوه ولا يخشوا الناس ، وأن لا يشتروا بآياته ثمناً قليلاً " . ثم قال : { يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهدى } [ ص : 26 ] الآية ، وقال : { إنّا أنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا للَّذِينَ هَادُوا } إلى قوله : { فلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشُوْنِ وَلاَ تَشْتَرُوا بآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بما أَنْزَلَ الله فَأُولَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ } . فتضمنت هذه الآية معاني : منها الإخبار بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد حكم على اليهود بحكم التوراة . ومنها : أن حكم التوراة كان باقياً في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن مبعث النبي صلى الله عليه وسلم لم يوجب نسخه ؛ ودلّ ذلك على أن ذلك الحكم كان ثابتاً لم يُنْسَخْ بشريعة الرسول صلى الله عليه وسلم . ومنها : إيجابُ الحكم بما أنزل الله تعالى وأن لا يعدل عنه ولا يحابي فيه مخافة الناس . ومنها : تحريم أخْذِ الرشا في الأحكام ، وهو قوله تعالى : { وَلا تَشْتَرُوا بآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً } .
قوله تعالى : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ الله } قال ابن عباس : " هو في الجاحد لحكم الله " . وقيل : " هي في اليهود خاصة " . وقال ابن مسعود والحسن وإبراهيم : " هي عامة " يعني فيمن لم يحكم بما أنزل الله وحكم بغيره مخبراً أنه حكم الله تعالى ، ومن فعل هذا فقد كفر . فمن جعلها في قوم خاصّة وهم اليهود ، لم يجعل " مَنْ " بمعنى الشرط ، وجعلها بمعنى الذي لم يحكم بما أنزل الله ، والمراد قوم بأعيانهم . وقال البراء بن عازب ، وذكر قصة رجم اليهود ، فأنزل الله تعالى : { يا أيُّها الرَّسُولُ لا يَحْزُنك الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الكُفْرِ } الآيات ، إلى قوله : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أنْزَلَ الله فَأولَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ } . قال : " في اليهود خاصة " ، وقوله : { فأولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } و { أولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ } " في الكفار كلهم " . وقال الحسن : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أنْزَلَ الله فأُولَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ } نزلت في اليهود وهي علينا واجبة . وقال أبو مجلز : " نزلت في اليهود " . وقال أبو جعفر : " نزلت في اليهود ثم جرت فينا " . ورَوَى سفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي البختريّ قال : قيل لحذيفة : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ الله فَأُولَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ } نزلت في بني إسرائيل ؟ قال : " نعم ، الإخوةُ لكم بنو إسرائيل ، أن كانت لكم كلّ حلوةٍ ولهم كلّ مُرَّة ، ولتَسْلُكُنَّ طريقهم قَدَّ الشراك " . قال إبراهيم النخعي : " نزلت في بني إسرائيل ورضي لكم بها " . ورَوَى الثوري عن زكريا عن الشعبي قال : " الأُولى للمسلمين والثانية لليهود والثالثة للنصارى " . وقال طاوس : " ليس بكفر ينقل عن الملة " وروى طاوس عن ابن عباس قال : " ليس الكفر الذي يذهبون إليه في قوله : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُم بمَا أَنْزَلَ الله فَأُولَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ } " . وقال ابن جريج عن عطاء : " كفرٌ دون كفر وظلمٌ دون ظلم وفسقٌ دون فسقٍ " . وقال علي بن حسين رضي الله عنهما : " ليس بكفر شرك ولا ظلم شرك ولا فسق شرك " .
قال أبو بكر : قوله تعالى : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ الله فَأُولَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ } لا يخلو من أن يكون مرادُه كفرَ الشرك والجحود أو كفرَ النعمة من غير جحود ؛ فإن كان المراد جحود حكم الله أو الحكم بغيره مع الإخبار بأنه حكم الله ، فهذا كفرٌ يخرج عن الملّة وفاعله مرتدٌّ إن كان قبل ذلك مسلماً ؛ وعلى هذا تأوّله من قال : " إنها نزلت في بني إسرائيل وجرت فينا " يعنون أن من جَحَدَ منّا حكم الله أو حكم بغير حكم الله ثم قال إن هذا حكم الله ، فهو كافرٌ كما كفرت بنو إسرائيل حين فعلوا ذلك وإن كان المراد به كفر النعمة فإن كفران النعمة قد يكون بترك الشكر عليها من غير جحود ، فلا يكون فاعله خارجاً من الملة ؛ والأظْهَرُ هو المعنى الأول لإطلاقه اسم الكفر على من لم يحكم بما أنزل الله . وقد تأوّلت الخوارج هذه الآية على تكفير من ترك الحكم بما أنزل الله من غير جحودٍ لها ، وأكْفَرُوا بذلك كل من عَصَى الله بكبيرة أو صغيرة ، فأدّاهم ذلك إلى الكفر والضلال بتكفيرهم الأنبياء بصغائر ذنوبهم .