قوله تعالى : { يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا اليَهُودَ وَالنَّصَارَى أوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ } رُوي عن عكرمة أنها نزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر لما تَنَصَّح إلى بني قريظة وأشار إليهم بأنه الذبح . وقال السدي : لما كان بعد أُحُدٍ خاف قومٌ من المشركين ، حتى قال رجل : أو إلى اليهود ، وقال آخر : أو إلى النصارى ؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية . وقال عطية بن سعد : " نزلت في عبادة بن الصامت وعبدالله بن أبيّ ابن سلول ، لما تبرأ عبادةُ من موالاة اليهود وتمسّك بها عبدالله بن أبيّ وقال أخاف الدوائر " . والوليُّ هو الناصر ، لأنه يَلِي صاحبه بالنصرة ، ووليّ الصغير لأنه يتولّى التصرف عليه بالحياطة ، ووليّ المرأة عَصَبَتُها لأنهم يتولّون عليها عقد النكاح .
مطلب : الكافر لا يكون ولياً للمسلم
وفي هذه الآية دلالةٌ على أن الكافر لا يكون ولياً للمسلم لا في التصرف ولا في النصرة ؛ ويدلّ على وجوب البراءة من الكفار والعداوة لهم ، لأن الولاية ضد العداوة ، فإذا أمرنا بمعاداة اليهود والنصارى لكفرهم فغيرهم من الكفار بمنزلتهم . ويدلّ على أن الكُفْرَ كله ملّة واحدة ، لقوله تعالى : { بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ } . ويدلّ على أن اليهوديّ يستحق الولاية على النصراني في الحال التي كان يستحقها لو كان المولى عليه يهودياً ، وهو أن يكون صغيراً أو مجنوناً ، وكذلك الولاية بينهما في النكاح هو على هذا السبيل . ومن حيث دلّت على كون بعضهم أولياء بعض فهو يدلّ على إيجاب التوارث بينهما ، وعلى ما ذكرنا من كون الكفر كله ملّة واحدة وإن اختلفت مذاهبه وطرقه . وقد دل على جواز مناكحة بعضهم لبعض ، اليهوديّ للنصرانية والنصرانيّ لليهودية . وهذا الذي ذكرنا إنما هو في أحكامهم فيما بينهم ، وأما فيما بينهم وبين المسلمين فيختلف حكم الكتابيّ وغير الكتابيّ في جواز المناكحة وأكل الذبيحة .
قوله تعالى : { وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإنّهُ مِنْهُمْ } يدلّ على أن حكمَ نصارى بني تغلب حكمُ نصارى بني إسرائيل في أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم ؛ ورُوي ذلك عن ابن عباس والحسن . وقوله : { منكم } يجوز أن يريد به العرب ، لأنه لو أراد المسلمين لكانوا إذا تولّوا الكفار صاروا مرتدّين ، والمرتد إلى النصرانية واليهودية لا يكون منهم في شيء من أحكامهم ، ألا ترى أنه لا تؤكل ذبيحته وإن كانت امرأة لم يجز نكاحها ولا يرثهم ولا يرثونه ولا يثبت بينهما شيء من حقوق الولاية ؟ وزعم بعضهم أن قوله : { وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فإِنَّهُ مِنْهُمْ } يدلّ على أن المسلم لا يرث المرتدّ ، لإخبار الله أنه ممن تولاّه من اليهود والنصارى ، ومعلوم أن المسلم لا يرث اليهودي ولا النصراني ، فكذلك لا يرث المرتد . قال أبو بكر : وليس فيه دلالة على ما ذكرنا ، لأنه لا خلاف أن المرتدّ إلى اليهودية لا يكون يهوديّاً والمرتدَّ إلى النصرانية لا يكون نصرانيّاً ، ألا ترى أنه لا تؤكل ذبيحته ولا يجوز تزويجها إن كانت امرأة وأنه لا يرث اليهودي ولا يرثه ؟ فكما لم يدلّ ذلك على إيجاب التوارث بينه وبين اليهودي والنصراني ، كذلك لا يدلّ على أن المسلم لا يرثه ، وإنما المراد أحد وجهين : إن كان الخطاب لكفّار العرب فهو دالّ على أن عَبَدَةَ الأوثان من العرب إذا تهوَّدوا أو تنصّروا كان حُكْمُهُمْ حُكْمَهُمْ في جواز المناكحة وأكل الذبيحة والإقرار على الكفر بالجزية ، وإن كان الخطاب للمسلمين فهو إخبار بأنه كافر مثلهم بموالاته إياهم ، فلا دلالة فيه على حكم الميراث .
فإن قال قائل : لما كان ابتداء الخطاب في المؤمنين ، لأنه قال : { يَا أَيُّها الّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا اليَهُودَ والنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ } لم يحتمل أن يريد بقوله : { وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ } مشركي العرب . قيل له : لما كان المخاطبون بأول الآية في ذلك الوقت هم العرب . جاز أن يريد بقوله : { وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ } العربَ ، فيفيد أن مشركي العرب إذا تولَّوُا اليهود أو النصارى بالديانة والانتساب إلى الملّة يكونون في حكمهم وإن لم يتمسكوا بجميع شرائع دينهم . ومن الناس من يقول فيمن اعتقد من أهل ملّتنا بعض المذاهب الموجبة لإكْفَارِ معتقديها : إنّ الحكم بإكْفَارِهِ لا يمنع أكل ذبيحته ومناكحة المرأة منهم إذا كانوا منتسبين إلى ملّة الإسلام ، وإن كُفِّروا باعتقادهم لما يعتقدونه من المقالة الفاسدة ، إذ كانوا في الجملة متولّين لأهل الإسلام منتسبين إلى حكم القرآن ، كما أن من انتحل النصرانية أو اليهودية كان حكمُهُ حكمَهُم وإن لم يكن متمسكاً بجميع شرائعهم ، ولقوله تعالى : { ومَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فإنّهُ مِنْهُمْ } ؛ وكان أبو الحسن الكرخي ممن يذهب إلى ذلك .