باب عدّة الآيسة والصغيرة
قال الله تعالى : { وَاللاّئي يَئِسْنَ مِنَ المَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فِعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لم يَحِضْنَ } . قال أبو بكر : قد اقتضت الآية إثبات الإياس لمن ذكرت في الآية من النساء بلا ارتياب ، وقوله تعالى : { إِنِ ارْتَبْتُمْ } غير جائز أن يكون المراد به الارتياب في الإياس ؛ لأنه قد أثبت حكم من ثَبُتَ إياسُها في أول الآية ، فرَوَى مطرّف عن عمرو بن سالم قال : " قال أبيّ بن كعب : يا رسول الله إن عدداً من عدد النساء لم تذكر في الكتاب الصغار والكبار وأولات الأحمال ! فأنزل الله تعالى : { وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ المَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لم يَحِضْنَ وأُولاَتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } " ، فأخبر في هذا الحديث أن سبب نزول الآية كان ارتيابهم في عدد من ذكر من الصغار والكبار وأولات الأحمال ، وأن ذِكْرَ الارتياب في الآية إنما هو على وجه ذكر السبب الذي نزل عليه الحكم ، فكان بمعنى : واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدّتهن ثلاثة أشهر .
واختلف السلف ومَنْ بعدهم من فقهاء الامصار في التي يرتفع حَيْضُها ، فروى ابن المسيب عن عمر رضي الله عنه قال : " أيما امرأة طلقت فحاضت حيضة أو حيضتين ثم رفعت حيضتها فإنه ينتظر بها تسعة أشهر ، فإن استبان بها حمل فذاك وإلا اعتدَّت بعد التسعة الأشهر بثلاثة أشهر ثم حلّت " . وعن ابن عباس في التي ارتفع حيضها سنة قال : " تلك الريبة " . وروى معمر عن قتادة عن عكرمة في التي تحيض في كل سنة مرة قال : " هذه ريبة عدّتها ثلاثة أشهر " .
وروى سفيان عن عمرو عن طاوس مثله . ورُوي عن عليّ وعثمان وزيد بن ثابت : " أن عدتها ثلاث حِيَضٍ " . ورَوَى مالك عن يحيى بن سعيد عن محمد بن يحيى بن حبان أنه قال ، وكان عند جده حِبّانُ امرأتان هاشمية وأنصارية فطلّق الأنصارية وهي ترضع فمرت به سنة ثم هلك ولم تَحِضْ فقالت : أنا أرثه ولم أَحِضْ ، فاختصما إلى عثمان فقضى لها بالميراث فلامت الهاشميّةُ عثمان ، فقال : هذا عمل ابن عمك وهو أشار علينا بذلك ؛ يعني عليّ بن أبي طالب .
ورَوَى ابن وهب قال : أخبرني يونس عن ابن شهاب بهذه القصة قال : وبقيت تسعة أشهر لا تحيض ؛ وذكر القصة ، فشاور عثمان عليّاً وزيداً فقالا : ترثه ، لأنها ليست من القواعد اللائي قد يئسن من المحيض ولا من الأبكار اللائي لم يَحِضْنَ ، وهي عنده على حيضتها ما كان من قليل أو كثير . وهذا يدل من قولهما أن قوله تعالى : { إِنِ ارْتَبْتُمْ } ليس على ارتياب المرأة ولكنه على ارتياب الشّاكّين في حكم عددهن ، وأنها لا تكون آيسة حتى تكون من القواعد اللاتي لا يُرْجَى حيضهن . ورُوي عن ابن مسعود مثل ذلك .
واختلف فقهاء الأمصار في ذلك أيضاً ، فقال أصحابنا في التي يرتفع حَيْضُها لا لإياس منه في المستأنف : " إن عدتها الحيض حتى تدخل في السنّ التي لا تحيض أهلها من النساء فتستأنف عدة الآيسة ثلاثة أشهر " . وهو قول الثوري والليث والشافعي . وقال مالك : " تنتظر تسعة أشهر فإن لم تَحِضْ فيهنّ اعتدَّتْ ثلاثة أشهر ، فإن حاضت قبل أن تستكمل الثلاثة أشهر استقبلت الحيض ، فإن مضت بها تسعة أشهر قبل أن تحيض اعتدّت ثلاثة أشهر " . وقال ابن القاسم عن مالك : " إذا حاضت المطلّقة ثم ارتابت فإنما تعتدّ بالتسعة الأشهر من يوم رُفِعَتْ حَيْضَتُهَا لا من يوم طلقت " ، وقال مالك في قوله تعالى : { إِنِ ارْتَبْتُمْ } " معناه إن لم تَدْرُوا ما تصنعون في أمرها " .
وقال الأوزاعي في رجل طلق امرأته وهي شابة فارتفعت حيضتها فلم تر شيئاً ثلاثة أشهر : " فإنها تعتدّ سنة " .
قال أبو بكر : أوجب الله بهذه الآية عدة الآيسة ثلاثة أشهر ، واقتضى ظاهر اللفظ أن تكون هذه العدة لمن قد ثبت إياسها من الحيض من غير ارتياب ، كما كان قوله : { وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ } لمن ثبت أنها لم تحض ، وكقوله : { وأولات الأحمال أجلهن } [ الطلاق : 4 ] لمن قد ثبت حملها ، فكذلك قوله : { وَاللاّئي يَئِسْنَ } لمن قد ثبت إياسها وتيقّن ذلك منها دون من يشك في إياسها . ثم لا يخلو قوله : { إِنِ ارْتَبْتُمْ } من أحد وجوه ثلاثة : إما أن يكون المراد الارتياب في أنها آيسة أو ليست بآيسة ، أو الارتياب في أنها حامل أو غير حامل ، أو ارتياب المخاطبين في عدة الآيسة والصغيرة ؛ وغير جائز أن يكون المراد الارتياب في أنها آيسة أو غير آيسة لأنه تعالى قد أثبت من جعل الشهور عدتها أنها آيسة ، والمشكوك فيها لا تكون آيسة لاستحالة مجامعة اليأس للرجاء إذْ هما ضدّان لا يجوز اجتماعهما حتى تكون آيسة من المحيض مرجوّاً ذلك منها ، فبطل أن يكون المعنى الارتياب في اليأس . ومن جهة أخرى اتفاق الجميع على أن المسنّة التي قد تيقن إياسها من الحيض مرادة بالآية ، والارتياب المذكور راجع إلى جميع المخاطبين وهو في التي قد تيقن إياسها ارتياب المخاطبين في العدة ، فوجب أن يكون في المشكوك في إياسها مثله لعموم اللفظ في الجميع . وأيضاً فإذا كانت عادتها وهي شابّة أنها تحيض في كل سنة مرة ، فهذه غير مرتاب في إياسها بل قد تيقن أنها من ذوات الحيض ، فكيف يجوز أن تكون عدتها سنة مع العلم بأنها غير آيسة وأنها من ذوات الحيض ! وتراخي ما بين الحيضتين من المدة لا يخرجها من أن تكون من ذوات الحيض ، فالموجب عليها عدة الشهور مُخَالِفٌ للكتاب ؛ لأن الله تعالى جعل عدة ذوات الأقراء الحيض بقوله تعالى : { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } [ البقرة : 228 ] ولم يفرق بين من طالت مدة حيضتها أو قصرت . ولا يجوز أيضاً أن يكون المراد الارتياب في الإياس من الحمل ؛ لأن اليأس من الحَيْضِ هو الإياس من الحبل ، وقد دللنا على بطلان قول من رد الارتياب إلى الحيض ؛ فلم يَبْقَ إلا الوجه الثالث ، وهو ارتياب المخاطبين ، على ما رُوي عن أبيّ بن كعب حين سأل النبي صلى الله عليه وسلم حين شك في عدة الآيسة والصغيرة . وأيضاً لو كان المراد الارتياب في الإياس لكان توجيه الخطاب إليهن أوْلَى من توجهيه إلى الرجال ؛ لأن الحيض إنما يتوصل إلى معرفته من جهتها ، ولذلك كانت مصدقة فيه ، فكان يقول : إن ارتبتن أو ارتبن ؛ فلما خاطب الرجال بذلك دونهن عُلم أنه أراد ارتياب المخاطبين في العدة .
وقوله تعالى : { وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ } يعني : واللائي لم يحضن عدتهن ثلاثة أشهر ؛ لأنه كلام لا يستقلّ بنفسه فلا بدّ له من ضمير ، وضميره ما تقدم ذكره مظهراً وهو العدة بالشهور .
قال الله تعالى : { وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } . قال أبو بكر : لم يختلف السلف والخلف بعدهم أن عدة المطلقة الحامل أن تضع حملها ؛ واختلف السلف في عدة الحامل المتوفى عنها زوجها ، فقال علي وابن عباس : " تعتدُّ الحامل المتوفى عنها زوجها آخر الأجلين " .
وقال عمر وابن مسعود وابن عمر وأبو مسعود البدري وأبو هريرة : " عدتها الحمل فإذا وضعت حلت للأزواج " ، وهو قول فقهاء الأمصار . قال أبو بكر : رَوَى إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود قال : " من شاء لاعَنْتُهُ ما نزلت : { وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ } إلا بعد آية المتوفَّى عنها زوجها " . قال أبو بكر : قد تضمن قول ابن مسعود هذا معنيين ، أحدهما : إثبات تاريخ نزول الآية وأنها نزلت بعد ذكر الشهور للمتوفى عنها زوجها ، والثاني : أن الآية مكتفية بنفسها في إفادة الحكم على عمومها غير مضمنة بما قبلها من ذكر المطلقة ، فوجب اعتبار الحمل في الجميع من المطلقات والمتوفى عنهن أزواجهن وأن لا يجعل الحكم مقصوراً على المطلقات لأنه تخصيص عموم بلا دلالة .
ويدل على أن المتوفَّى عنها زوجها داخلةٌ في الآية مرادةٌ بها اتفاقُ الجميع على أن مُضِيَّ شهور المتوفى عنها زوجها لا يوجب انقضاء عدتها دون وضع الحمل ، فدل على أنها مرادة بها ، فوجب اعتبار الحمل فيها دون غيره ، ولو جاز اعتبار الشهور لأنها مذكورة في آية أخرى لجاز اعتبار الحيض مع الحمل في المطلقة لأنها مذكورة في قوله تعالى : { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } [ البقرة : 228 ] ، وفي سقوط اعتبار الحَيْضِ مع الحمل دليل على سقوط اعتبار الشهور مع الحمل . وقد روى منصور عن إبراهيم عن الأسود عن أبي السنابل بن بعكك : أن سبيعة بنت الحارث وضعت بعد وفاة زوجها بثلاثة وعشرين ، فتشوَّفت للنكاح ، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : " إِنْ تَفْعَلْ فَقَدْ خَلا أَجَلُها " . وروى يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن عبدالرّحمن قال : اختلف ابن عباس وأبو هريرة في ذلك ، فأرسل ابن عباس كُرَيْباً إلى أم سلمة فقالت : " إن سبيعة وضعت بعد وفاة زوجها بأيام ، فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن تتزوج " . وروى محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم التيمي عن أبي سلمة عن سبيعة أنها وضعت بعد موت زوجها بشهرين ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تَزَوَّجِي ! " . وجعل أصحابنا عدة امرأة الصغير من الوفاة الحمل إذا مات عنها زوجها وهي حامل ، لقوله تعالى : { وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } ، ولم يفرق بين امرأة الصغير والكبير ولا بين من يلحقه بالنسب أو لا يلحقه .