قوله تعالى : { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً } ، خصّ الأمر بالقتال للذين يَلُونهم من الكفار ، وقال في أول السورة { فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } وقال في موضع آخر : { وَقَاتِلُوا المُشْرِكِينَ كَافَّةً } فأوجب قتال جميع الكفار ، ولكنه خصَّ بالذكر الذين يَلُونَنا من الكفار إذْ كان معلوماً أنه لا يمكننا قتال جميع الكفار في وقت واحد وأن الممكن منه هو قتال طائفة فكان من قرب منهم أوْلى بالقتال ممن بعد ؛ لأن الاشتغال بقتال من بَعُدَ منهم مع ترك قتال من قَرُبَ لا يؤمن معه هَجْمُ من قرب على ذراري المسلمين ونسائهم وبلادهم إذا خلت من المجاهدين ، فلذلك أمر بقتال من قرب قبل قتال من بعد . وأيضاً لا يصح تكليف قتال الأبعد ، إذْ لا حَد للأبعد يبتدأ منه القتال كما للأقرب . وأيضاً فغير ممكن الوصول إلى قتال الأبعد إلا بعد قتال من قَرُبَ وقَهْرِهم وإذلالهم ؛ فهذه الوجوه كلها تقتضي تخصيص الأمر بقتال الأقرب .
وقوله تعالى : { وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً } فيه أمْرٌ بالغِلْظَةِ على الكفار الذين أمرنا بقتالهم في القول والمناظرة والرسالة ، إذ كان ذلك يوقع المهابة لنا في صدورهم والرعب في قلوبهم ويستشعرون منا به شدة الاستبصار في الدين والجدّ في قتال المشركين ، ومتى أظهروا لهم اللين في القول المحاورة استجرؤوا عليهم وطمعوا فيهم ، فهذا حَدُّ ما أمر الله به المؤمنين من السيرة في عدوهم .