قوله تعالى : { وَمَا كَانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا في الدِّينِ } . رُوي عن ابن عباس أنه نسخ قوله : { فانفروا ثبات أو انفروا جميعاً } [ النساء : 71 ] وقوله : { انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً } ، فقال تعالى : ما كان لهم أن ينفروا في السرايا ويتركوا النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة وحده ، ولكن تبقى بقية لتنفقّه ثم تنذر النافرة إذا رجعوا إليهم . وقال الحسن : " لتتفقه الطائفة النافرة ثم تنذر إذا رجعت إلى قومها المتخلفة " ؛ وهذا التأويل أشبه بظاهر الآية لأنه قال تعالى : { فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا في الدِّينِ } ، فظاهر الكلام يقتضي أن تكون الطائفة النافرة هي التي تنفقه وتنذر قومها إذا رجعت إليهم . وعلى التأويل الأول الفرقة التي نفرت منها الطائفة هي التي تنفقه وتنذر الطائفة إذا رجعت إليها ؛ وهو بعيد من وجهين ، أحدهما : أن حكم العطف أن يتعلق بما يليه دون ما يتقدمه ، فوجب على هذا أن يكون قوله : { مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا } أن تكون الطائفة هي التي تتفقه وتنذر ، ولا يكون معناه من كل فرقة تتفقه في الدين تنفر منهم طائفة ؛ لأنه يقتضي إزالة ترتيب الكلام عن ظاهره وإثبات التقديم والتأخير فيه . والوجه الثاني : أن قوله : { لِيَتَفَقَّهُوا في الدِّينِ } الطائفة أوْلى منه بالفرقة النافرة منها الطائفة ؛ وذلك لأن نفر الطائفة للتفقه معنى مفهوم يقع النفر من أجله ، والفرقة التي منها الطائفة ليس تفقّهها لأجل خروج الطائفة منها ، لأنها إنما تتفقَّه بمشاهدة النبي صلى الله عليه وسلم ولزوم حضرته لا لأن الطائفة نفرت منها ، فحَمْلُ الكلام على ذلك يبطل فائدة قوله تعالى : { لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ } ، فثبت أن التي تتفقه هي الطائفة النافرة من الفرقة المقيمة في بلدها وتنذر قومها إذا رجعت إليها .
وفي هذه الآية دلالة على وجوب طلب العلم وأنه مع ذلك فرض على الكفاية ، لما تضمنت من الأمر بنفر الطائفة من الفرقة للتفقه ، وأمر الباقين بالقعود لقوله : { وَمَا كَانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً } . وقد روى زياد بن ميمون عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " طَلَبُ العِلْمِ فَرِيضَةٌ على كُلِّ مُسْلِمٍ " ، وهذا عندنا ينصرف على معنيين ، أحدهما : طلب العلم فيما يبتلى به الإنسان من أمور دينه فعليه أن يتعلمه ، مثل من لا يعرف حدود الصلاة وفروضها وحضور وقتها فعليه أن يتعلمها ، ومثل من ملك مائتي درهم فعليه أن يتعلم ما يجب عليه فيها ، وكذلك الصوم والحج وسائر الفروض . والمعنى الآخر : أنه فَرْضٌ على كل مسلم ، إلا أنه على الكفاية إذا قام به بعضهم سقط عن الباقين . وفيه دلالة على لزوم خبر الواحد في أمور الديانات التي لا تلزم الكافة ولا تعم الحاجة إليها ؛ وذلك لأن الطائفة لما كانت مأمورة بالإنذار انتظم فحواه الدلالة عليه من وجهين ، أحدهما : أن الإنذار يقتضي فعل المأمور به وإلا لم يكن إنذاراً . والثاني : أمره إيانا بالحذر عند إنذار الطائفة ؛ لأن قوله تعالى : { لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } معناه : ليحذورا ، وذلك يتضمن لزوم العمل بخبر الواحد لأن الطائفة اسم يقع على الواحد . وقد رُوي في تأويل قوله تعالى : { وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين } [ النور : 2 ] أنه أراد واحداً ، وقال تعالى : { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا } [ الحجرات : 9 ] ولا خلاف أن الاثنين إذا اقتتلا كانا مرادين بحكم الآية ؛ ولأن الطائفة في اللغة كقولك البعض والقطعة من الشيء ، وذلك موجود في الواحد ، فكان قوله : { مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ } بمنزلته لو قال بعضها أو شيء منها ، فدلالة الآية ظاهرة في وجوب قبول الخبر المقصّر عن إيجاب العلم . وإن كان التأويل ما رُوِيَ عن ابن عباس أن الطائفة النافرة إنما تنفر من المدينة والتي تتفقّه إنما هي القاعدة بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم ، فدلالتها أيضاً قائمة في لزوم قبول خبر الواحد ؛ لأن النافرة إذا رجعت أنذرتها التي لم تنفر وأخبرتها بما نزل من الأحكام . وهي تدلّ أيضاً على لزوم قبول خبر الواحد بالمدينة مع كَوْنِ النبي صلى الله عليه وسلم بها ، لإيجابها الحذر على السامعين بنذارة القاعدين .