قال الله تعالى : { فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الحُرُمُ فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } . روى معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله : { لست عليهم بمصيطر } [ الغاشية : 22 ] ، وقوله : { وما أنت عليهم بجبار } [ ق : 45 ] ، وقوله تعالى : { فاعف عنهم واصفح } [ المائدة : 13 ] ، وقوله : { قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله } [ الجاثية : 14 ] ، قال : " نسخ هذا كله قوله تعالى : { فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } وقوله تعالى : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ ولا بِالْيَوْمِ الآخِرِ } الآية " . وقال موسى بن عقبة : قد كان النبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك يكفّ عمن لم يقاتله بقوله تعالى : { وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً } [ النساء : 90 ] ، ثم نسخ ذلك بقوله : { بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ } ، ثم قال : { فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الحُرُمُ فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ } . قال أبو بكر : عمومه يقتضي قَتْلَ سائر المشركين من أهل الكتاب وغيرهم وأن لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف ، إلا أنه تعالى خَصَّ أهل الكتاب بإقرارهم على الجزية بقوله تعالى : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بالله ولا باليَوْمِ الآخِرِ } الآية ، وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم الجزية من مجوس هَجَر . وقال في حديث علقمة بن مرثد عن ابن بريدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا بعث سَرِيَّةً قال : " إِذَا لَقِيتُمُ المُشْرِكِينَ فادْعُوهُمْ إلى الإسْلامِ فإِنْ أَبَوْا فَادْعُوهُمْ إلى أَدَاءِ الجِزْيَةِ فإنْ فَعَلُوا فَخُذُوا مِنْهُمْ وكُفُّوا عَنْهُمْ " ، وذلك عموم في سائر المشركين ، فخصصنا منه من لم يكن من مشركي العرب بالآية ، وصار قوله تعالى : { فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } خاصّاً في مشركي العرب دون غيرهم . وقوله تعالى : { وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ } يدل على حبسهم بعد الأخْذِ والاستيناء بقتلهم انتظاراً لإسلامهم ؛ لأن الحصر هو الحبس . ويدل أيضاً على جواز حَصْرِ الكفار في حصونهم ومدنهم إن كان فيهم من لا يجوز قتله من النساء والصبيان وأن يلقوا بالحصار . وقوله تعالى : { فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ } يقتضي عمومه جواز قتلهم على سائر وجوه القتل ، إلا أن السُّنَّة قد وردت بالنهي عن المُثَلَةِ وعن قتل الصَّبْرِ بالنَّبْلِ ونحوه ؛ وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أَعَفُّ النَّاسِ قِتْلَةً أَهْلُ الإيمانِ " ، وقال : " إذا قَتَلْتُمْ فأَحْسِنُوا القِتْلَةَ " . وجائز أن يكون أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه حين قتل أهل الردّة بالإحراق والحجارة والرمي من رؤوس الجبال والتنكيس في الآبار إنما ذهب فيه إلى ظاهر الآية ، وكذلك علي بن أبي طالب رضي الله عنه حين أحرق قوماً مرتدّين جائز أن يكون اعتبر عموم الآية .
قوله عزّ وجلّ : { فإنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ } . لا يخلو قوله تعالى : { فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وآتَوُا الزَّكَاةَ } من أن يكون وجود هذه الأفعال منهم شرطاً في زوال القتل عنهم ويكون قبول ذلك والانقياد لأمر الله تعالى فيه هو الشرط دون وجود الفعل ؛ ومعلوم أن وجود التوبة من الشِّرْك شرط لا محالة في زوال القتل ، ولا خلاف أنهم لو قبلوا أمْرَ الله في فعل الصلاة والزكاة ولم يكن الوقت وقت صلاة أنهم مسلمون وأن دماءهم محظورة ، فعلمنا أن شرط زوال القتل عنهم هو قبول أوامر الله والاعتراف بلزومها دون فعل الصلاة والزكاة ، ولأن إخراج الزكاة لا يلزم بنفس الإسلام إلا بعد حَوْلٍ ، فغير جائز أن يكون إخراج الزكاة شرطاً في زوال القتل وكذلك فعل الصلاة ليس بشرط فيه وإنما شرطه قبول هذه الفرائض والتزامها والاعتراف بوجوبها .
فإن قيل : لما قال الله تعالى : { فإِنْ تَابُوا وأَقَامُوا الصَّلاةَ وآتَوُا الزَّكَاةَ } فشَرَطَ مع التوبة فِعْلَ الصلاة والزكاة ، ومعلوم أن التوبة إنما هي الإقلاع عن الكفر والرجوع إلى الإيمان ، فقد عقل بذكره التوبة التزام هذه الفرائض والاعتراف بها إذ لا تصح التوبة إلا به ، ثم لما شرط مع التوبة الصلاة والزكاة دلَّ على أن المعنى المزيل للقتل هو اعتقاد الإيمان بشرائطه وفعل الصلاة والزكاة ، فأوجب ذلك قتل تارك الصلاة والزكاة في وقت وجوبهما وإن كان معتقداً للإيمان معترفاً بلزوم شرائعه . قيل له : لو كان فعل الصلاة والزكاة من شرائط زوال القتل لما زال القتل عمن أسلم في غير وقت الصلاة وعمن لم يؤدِّ زكاته مع إسلامه ، فلما اتفق الجميع على زوال القتل عمن وصفنا أمْرَهُ بعد اعتقاده للإيمان للزوم شرائعه ثبت بذلك أن فعل الصلاة والزكاة ليس من شرائط زوال القتل وأن شرطه إظهار الإيمان وقبول شرائعه ، ألا ترى أن قبول الإيمان والتزام شرائعه لما كان شرطاً في ذلك لم يزل عنه القتل عند إخلاله ببعض ذلك ؟ .
مطلب : فيما فعله أبو بكر الصديق رضي الله عنه بالذين امتنعوا من أداء الزكاة
وقد كانت الصحابة سَبَت ذراري مانعي الزكاة وقتلت مقاتلتهم ، وسموهم أهل الردة لأنهم امتنعوا من التزام الزكاة وقبول وجوبها فكانوا مرتدّين بذلك ؛ لأن من كفر بآية من القرآن فقد كفر به كله . وعلى ذلك أجرى حكمهم أبو بكر الصدّيق مع سائر الصحابة حين قاتلوهم . ويدلّ على أنهم مرتدُّون بامتناعهم من قبول فرض الزكاة ما روى معمر عن الزهري عن أنس قال : لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدَّت العرب كافّة فقال عمر : يا أبا بكر أتريد أن تقاتل العرب كافة ! فقال أبو بكر : إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا شَهِدُوا أَنْ لا إله إِلاّ الله وأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ الله وأَقَامُوا الصَّلاةَ وآتَوُا الزَّكَاةَ مَنَعُونِي دِمَاءَهُمْ وأَمْوَالَهُمْ " . والله لو منعوني عقالاً مما كانوا يعطون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه . وروى مبارك بن فضالة عن الحسن قال : لما قُبِضَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدّت العرب عن الإسلام إلا أهل المدينة ، فنصب أبو بكر لهم الحرب فقالوا : فإذاً نشهد أن لا إله إلاّ الله ونصلّي ولا نزكي ، فمشى عمر والبدريون إلى أبي بكر وقالوا : دعهم فإنهم إذا استقرّ الإسلام في قلوبهم وثبت أدّوا ! فقال : والله لو منعوني عقالاً مما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه ! وقاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثلاث : شهادة أن لا إله إلاّ الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، وقال الله تعالى : { فإِنْ تَابُوا وأَقَامُوا الصَّلاةَ وآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ } والله لا أسأل فوقهن ولا أقصر دونهن ! فقالوا له : يا أبا بكر نحن نزكي ولا ندفعها إليك ، فقال : لا والله حتى آخذها كما أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأضعها مواضعها ! وروى حماد بن زيد عن أيوب عن محمد بن سيرين مثله . وروى الزهري عن عبيدالله بن عبدالله عن أبي هريرة قال : لما قُبِضَ رسولُ الله صلى لله عليه وسلم واسْتُخْلِفَ أبو بكر وارتدّ من ارتدّ من العرب ، بعث أبو بكر لقتال من ارتدَّ عن الإسلام ، فقال له عمر : يا أبا بكر ألم تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لا إِلَهَ إِلاَّ الله فإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنّي دِمَاءَهُمْ وأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ بحَقِّهَا وحِسَابُهُمْ عَلى الله " ؟ فقال : لو منعوني عِقَالاً مما كانوا يؤدّونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه .
فأخبر جميع هؤلاء الرواة أن الذين ارتدّوا من العرب إنما كان رِدَّتهم من جهة امتناعهم من أداء الزكاة ، وذلك عندنا على أنهم امتنعوا من أداء الزكاة على جهة الردّ لها وترك قبولها ، فسُمُّوا مرتدين من أجل ذلك . وقد أخبر أبو بكر الصديق أيضاً في حديث الحسن أن يقاتلهم على ترك الأداء إليه وإن كانوا معترفين بوجوبها ؛ لأنهم قالوا بعد ذلك نزكّي ولا نؤدّيها إليك ، فقال : لا والله حتى آخذها كما أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم ! وفي ذلك ضربان من الدلالة ، أحدهما : أن مانع الزكاة على وَجْهِ ترك التزامها والاعتراف بوجوبها مرتدٌّ وأن مانعها من الإمام بعد الاعتراف بها يستحق القتال ، فثبت أن من أدَّى صدقة مواشيه إلى الفقراء أن الإمام لا يحتسب له بها وأنه متى امتنع من دفعها إلى الإمام قاتله عليها ، وكذلك قال أصحابنا في صدقات المواشي . وأما زكاة الأموال فإن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر قد كانوا يأخذونها كما يأخذون صدقات المواشي ، فلما كان أيام عثمان خطب الناس فقال : " هذا شهر زكاتكم فمن كان عليه دَيْنٌ فليؤدِّه ثم ليزكِّ بقية ماله " فجعل الأداء إلى أرباب الأموال وصاروا بمنزلة الوكلاء للإمام في أدائها . وهذا الذي فعله أبو بكر في مانعي الزكاة بموافقة الصحابة إياه كان من غير خلاف منهم بعدما تبينوا صحة رأيه واجتهاده في ذلك .
ويحتج من أوجب قتل تارك الصلاة ومانع الزكاة عامداً بهذه الآية ، وزعم أنها توجب قتل المشرك إلا أن يؤمن ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة . وقد بينا المعنى في قوله تعالى : { وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وآتَوُا الزَّكَاةَ } وأن المراد قبول لزومهما والتزام فرضهما دون فعلهما . وأيضاً فليس في الآية ما ادَّعوا من الدلالة على ما ذهبوا إليه ، من قِبَلِ أنها إنما أوجبت قتل المشركين ، ومن تاب من الشرك ودخل في الإسلام والتزم فروضه وأقرَّ بها فهو غير مشرك باتفاق ، فلم تَقْتَضِ الآية قتله إذ كان حكمها مقصوراً في إيجاب القتل على من كان مشركاً ، وتارك الصلاة ومانع الزكاة ليس بمشرك .
فإن قالوا : إنما أزال القتل عنه بشرطين ، أحدهما : التوبة وهي الإيمان وقبول شرائعه ، والوجه الثاني : فِعْلُ الصلاة وأداء الزكاة . قيل له : إنما أوجب بديّاً قتل المشركين بقوله تعالى : { فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ } فمتى زالت عنهم سِمَةُ الشرك فقد وجب زوال القتل ، ويحتاج في إيجابه إلى دلالة أخرى من غيره .
فإن قال : هذا يؤدّي إلى إبطال فائدة ذكر الشرطين في الآية . قيل له : ليس الأمر على ما ظننتَ ؛ وذلك لأن الله تعالى إنما جعل هذين القربين من فعل الصلاة وإيتاء الزكاة شرطاً في وجوب تخلية سبيلهم ؛ لأنه قال : { فَإِنْ تَابُوا وأَقَامُوا الصَّلاةَ وآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ } وذلك بعد ذكره القتل للمشركين بالحصر ، فإذا زال القتل بزوال سِمَةِ الشرك فالحصر والحبس باقٍ لترك الصلاة ومنع الزكاة لأن من ترك الصلاة عامداً وأصرَّ عليه ومنع الزكاة جاز للإمام حبسه ، فحينذ لا يجب تَخْلِيَتُه إلا بعد فعل الصلاة وأداء الزكاة ، فانتظمت الآية حكم إيجاب قتل المشرك وحبس تارك الصلاة ومانع الزكاة بعد الإسلام حتى يفعلهما .