مطلب : في بيان معنى الفقير والمسكين
قوله تعالى : { إِنَّما الصَّدَقَاتُ للفُقَرَاءِ وَالمَسَاكِينِ } الآية . قال الزهري : " الفقير الذي لا يسأل والمسكين الذي يسأل " . ورَوَى ابن سماعة عن أبي يوسف عن أبي حنيفة في حدّ الفقير والمسكين مثل هذا ؛ وهذا يدل على أنه رأى المسكين أضعف حالاً وأبلغ في جهد الفقر والعُدْمِ من الفقير . ورُوي عن ابن عباس والحسن وجابر بن زيد والزهري ومجاهد قالوا : " الفقير المتعفف الذي لا يسأل والمسكين الذي يسأل " ؛ فكان قول أبي حنيفة موافقاً لقول هؤلاء السلف . ويدل على هذا قوله تعالى : { للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضرباً في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافاً } [ البقرة : 273 ] فسمّاهم فقراء ووصفهم بالتعفف وتَرْكِ المسألة . ورُوي عن قتادة قال : " الفقير ذو الزَّمَانَةِ من أهل الحاجة ، والمسكين الصحيح منهم " . وقيل : إن الفقير هو المسكين إلا أنه ذكر بالصفتين لتأكيد أمره في استحقاق الصدقة . وكان شيخنا أبو الحسن الكرخي رحمه الله يقول : " المسكين هو الذي لا شيء له والفقير هو الذي له أدنى بُلْغَة " ، ويحكى ذلك عن أبي العباس ثعلب ، قال : وقال أبو العباس : حُكي عن بعضهم أنه قال : قلت لأعرابي : أفقير أنت ؟ قال : لا بل مسكين ؛ وأنشد عن ابن الأعرابي :
* أمّا الفَقِيرُ الّذي كانَتْ حَلُوبَتُهُ * وِفْقَ العِيَالِ فلم يُتْرَكْ له سَبَدُ *
فسماه فقيراً مع وجود الحَلُوبَةِ . قال : وحكى محمد بن سلام الجمحي عن يونس النحوي أنه قال : " الفقير يكون له بعض ما يغنيه والمسكين الذي لا شيء له " .
قال أبو بكر : قوله تعالى : { يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف } [ البقرة : 273 ] يدل على أن الفقير قد يملك بعض ما يُغنيه لأنه لا يحسّه الجاهل بحاله غنيّاً إلا وله ظاهر جميل وبَزَّةٌ حسنة ، فدل على أن ملكه لبعض ما يغنيه لا يسلبه صفة الفقر . وكان أبو الحسن يستدلّ على ما قال في صفة المسكين بحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إِنَّ المِسْكِينَ لَيْسَ بالطَّوَّافِ الَّذِي تَرُدُّهُ التَّمْرَةُ والتَّمْرَتَانِ والأَكْلَةُ والأَكْلَتَانِ وَلَكِنِ المسْكِينُ الّذي لا يَجِدُ ما يُغْنِيهِ " ، قال : فلما نَفَى المبالغة في المسكنة عمن ترده التمرة والتمرتان وأثبتها لمن لا يجد ذلك وسمّاه مسكيناً ، دلّ ذلك على أن المسكين أضعف حالاً من الفقير . قال : ويدل عليه قوله تعالى : { أو مسكيناً ذا متربة } [ البلد : 16 ] ؛ رُوي في التفسير أنه الذي قد لزق بالتراب وهو جائع عارٍ لا يواريه عن التراب شيء ، فدل ذلك على أن المسكين في غاية الحاجة والعدم .
فإن قيل : قال الله تعالى : { أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر } [ الكهف : 79 ] فأثبت لهم ملك السفينة وسماهم مساكين . قيل له : قد رُوي أنهم كانوا أُجراء فيها وأنهم لم يكونوا مُلاّكاً لها ، وإنما نسبها إليهم بالتصرف والكون فيها ، كما قال الله تعالى : { لا تَدخلوا بيوت النبي } [ الأحزاب : 53 ] وقال في موضع آخر : { وقرن في بيوتكن } [ الأحزاب : 33 ] ، فأضاف البيوت تارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وتارة إلى أزواجه ، ومعلوم أنها لم تَخْلُ من أن تكون ملكاً له أو لهن ؛ لأنه لا يجوز أن تكون لهن وله في حال واحدة ، لاستحالة كونها ملكاً لكل واحد منهم على حِدَةٍ ، فثبت أن الإضافة إنما صحت لأجل التصرف والسكنى ، كما يقال : " هذا منزل فلان " وإن كان ساكناً فيه غير مالك له ، و " هذا مسجد فلان " ولا يراد به الملك ؛ وكذلك قوله : { أما السفينة فكانت لمساكين } [ الكهف : 79 ] هو على هذا المعنى .
ويقال إن الفقير إنما سُمّي بذلك لأنه مِنْ ذوي الحاجة بمنزلة من قد كُسِرَتْ فَقَارُهُ ، يقال منه : فقر الرجل فَقْراً وأفقره الله إفقاراً وتَفَاقَرَ تَفَاقُراً ، والمسكين الذي قد أسكنته الحاجة . ورُوي عن إبراهيم النخعي والضحاك في الفرق بين الفقير والمسكين . " أن الفقراء المهاجرون والمساكين من غير المهاجرين " ، كأنهما ذهباً إلى قوله تعالى : { للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم } [ الحشر : 8 ] . وروى سعيد عن قتادة قال : " الفقير الذي به زَمَانَةٌ وهو فقير إلى بعض جسده وبه حاجة ، والمسكين المحتاج الذي لا زَمَانَةَ به " . وروى معمر عن أيوب عن ابن سيرين أن عمر بن الخطاب قال : " ليس المسكين بالذي لا مال له ولكن المسكين الذي لا يصيب المكسب " . وهذا الذي قدّمنا يدل على أن الفقير أحسنُ حالاً من المسكين وأن المسكين أضعف حالاً منه . وقد رَوَى أبو يوسف عن أبي حنيفة فيمن قال ثلث مالي للفقراء والمساكين ولفلان ؛ أن لفلان الثلث والثلثان للفقراء والمساكين ؛ فهذا موافق لما رُوي عنه في الفَرْقِ بين الفقير والمسكين وأنهما صنفان . ورُوي عن أبي يوسف في هذه المسألة : أن نصف الثلث لفلان ونصفه للفقراء والمساكين ؛ فهذا يدلّ على أنه جعل الفقراء والمساكين صنفاً واحداً .
وقوله تعالى : { وَالعَامِلِينَ عَلَيْها } ، فإنهم السُّعَاةُ لجباية الصدقة ؛ رُوي عن عبدالله بن عمر أنهم يُعْطَوْنَ بقدر عمالتهم ؛ وعن عمر بن عبدالعزيز مثله . ولا نعلم خلافاً بين الفقهاء أنهم لا يعطون الثمن وأنهم يستحقون منها بقدر عملهم . وهذا يدل على بطلان قول من أوجب قسمة الصدقات على ثمانية ، ويدل أيضاً على أن أخْذَ الصدقات إلى الإمام وأنه لا يجزي أن يُعْطَى ربُّ الماشية صَدَقَتها الفقراء ، فإن فعل أخذها الإمام ثانياً ولم يحتسب له بما أدَّى ؛ وذلك لأنه لو جاز لأرباب الأموال أداؤها إلى الفقراء لما احتيج إلى عامل لجبايتها فيضرّ بالفقراء والمساكين ، فدل ذلك على أن أخْذَها إلى الإمام وأنه لا يجوز له إعطاؤها الفقراء .
مطلب : في المؤلفة القلوب
قوله تعالى : { وَالمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ } ، فإنهم كانوا قوماً يَتَأَلّفون على الإسلام بما يُعْطَوْنَ من الصدقات ، وكانوا يتألفون بجهات ثلاث : إحداها للكفار لدفع معرَّتهم وكفّ أذيتهم عن المسلمين والاستعانة بهم على غيرهم من المشركين ، والثانية : لاستمالة قلوبهم وقلوب غيرهم من الكفار إلى الدخول في الإسلام ولئلا يمنعوا من أسلم من قومهم من الثبات على الإسلام ونحو ذلك من الأمور ، والثالثة : إعطاء قوم من المسلمين حديثي العهد بالكفر لئلا يرجعوا إلى الكفر . وقد روى الثوري عن أبيه عن أبي نعيم عن أبي سعيد الخدري قال : بعث علي بن أبي طالب بذهبة في أديم مقروظ ، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين زيد الخير والأقرع بن حابس وعيينة بن حصن وعلقمة بن علاثة ، فغضبت قريش والأنصار وقالوا : يعطي صناديد أهل نجد ! قال : " إِنَّمَا أَتَأَلَّفُهُمْ " . وروى ابن أبي ذئب عن الزهري عن عامر بن سعد عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إِنِّي لأُعْطِي الرَّجُلَ العَطَاءَ وغَيْرُهُ أَحَبُّ إليَّ مِنْهُ وما أَفْعَلُ ذَلِكَ إِلاّ مَخَافَةَ أَنْ يَكُبَّهُ الله في نَارِ جَهَنَّمَ عَلَى وَجْهِهِ " . وروى عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن الزهري قال : أخبرني أنس بن مالك أن ناساً من الأنصار قالوا يوم حنين حين أفاء الله على رسوله أموال هَوَازِنَ وطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي رجالاً من قريش المائة من الإبل كلّ رجل منهم ، فذكر حديثاً فيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إِني لأُعْطِي رِجَالاً حَدِيثِي عَهْدٍ بِكُفْرٍ أَتَأَلّفُهُمْ أُصَانِعُهُمْ أَفَلا تَرْضَونَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بالأَمْوَالِ وتَرْجِعُونَ برسُولِ الله إلى رِحَالِكُمْ ؟ " وهذا يدل على أنه قد كان يتألف بما يعطي قوماً من المسلمين حديثي عهد بالإسلام لئلا يرجعوا كفاراً . وروى الزهري عن سعيد بن المسيب عن صفوان بن أمية قال : " أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنه لأَبْغَضُ الناس إليَّ ، فما زال يعطيني حتى إنه لأحَبُّ الخلق إليَّ " . وروى محمود بن لَبِيدٍ عن أبي سعيد الخدري قال : لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنائم بحنين وقسم للمتألّفين من قريش وفي سائر العرب ما قسم ، وجد هذا الحيُّ من الأنصار في أنفسهم ، وذكر الحديث ، وقال فيه : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم : " أَوَجَدْتُمْ في أَنْفُسِكُمْ يا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ في لُعَاعَةٍ مِنَ الدُّنْيَا تَأَلَّفْتُ بها أَقْوَاماً لِيُسْلِمُوا وَوَكَلْتُكُمْ إلى ما قَسَمَ الله لَكُمْ مِنَ الإسْلامِ ! " ففي هذا الحديث أنه تألّفهم ليُسْلِموا ، وفي الأول : " إني لأعطي رجالاً حديثي عَهْدٍ بكُفْرٍ " ، فدلّ على أنه قد كان يتألف بذلك المسلمين والكفار جميعاً .
وقد اختلف في المؤلفة قلوبهم ، فقال أصحابنا : " إنما كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول الإسلام في حال قلّة عدد المسلمين وكثرة عدوّهم وقد أعزّ الله الإسلام وأهْلَه واستُغْني بهم عن تألّف الكفار ، فإن احتاجوا إلى ذلك فإنما ذلك لتركهم الجهاد ، ومتى اجتمعوا وتعاضدوا لم يحتاجوا إلى تألُّفِ غيرهم بمال يعطونه من أموال المسلمين " . وقد رُوي نحو قول أصحابنا عن جماعة من السلف ؛ روى عبدالرّحمن بن محمد المحاربي عن حجاج بن دينار عن ابن سيرين عن عبيدة قال : " جاء عُيَيْنَة بن حَصْن والأقرع بن حابس إلى أبي بكر فقالا : يا خليفة رسول الله إن عندنا أرضاً سَبْخَة ليس فيها كلأ ولا منفعة فإن رأيت أن تعطيناها ! فأقطعها إياهما وكتب لهما عليها كتاباً وأشهد ، وليس في القوم عمر ، فانطلقا إلى عمر ليشهد لهما ، فلما سمع عمر ما في الكتاب تناوله من أيديهما ثم تَفَل فيه فمحاه ، فتذمرا وقالا مقالة سيئة ، فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتألّفكما والإسلامُ يومئذ قليل ، وإنّ الله قد أغْنَى الإسلام ، اذهبا فاجْهَدَا جهدكما لا يرعى الله عليكما إن رعيتما ! " . قال أبو بكر رحمه الله : فتَرْكُ أبي بكر الصديق رضي الله عنه النكير على عمر فيما فعله بعد إمضائه الحكم يدلّ على أنه عرف مذهب عمر فيه حين نبّهه عليه ، وأن سهم المؤلفة قلوبهم كان مقصوراً على الحال التي كان عليها أهل الإسلام من قلة العدد وكثرة عدد الكفار ، وأنه لم يَرَ الاجتهاد سَائغاً في ذلك لأنه لو سوَّغ الاجتهاد فيه لما أجاز فسخ الحكم الذي أمضاه ، فلما أجاز له ذلك دلّ على أنه عرف بتنبيه عمر إياه على ذلك امتناع جواز الاجتهاد في مثله .
وروى إسرائيل عن جابر عن أبي جعفر قال : " ليس اليوم مؤلفة قلوبهم " . وروى إسرائيل أيضاً عن جابر بن عامر في المؤلفة قلوبهم قال : " كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما اسْتُخْلِفَ أبو بكر انقطع الرِّشَا " . وروى ابن أبي زائدة عن مبارك عن الحسن قال : " ليس مؤلفة قلوبهم ، كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم " . وروى معقل بن عبيدالله قال : " سألت الزهري عن المؤلفة قلوبهم ، قال : من أسلم من يهودي أو نصراني ، قلت : وإن كان غنيّاً ؟ قال : وإن كان غنيّاً " .
قوله تعالى : { وَفِي الرِّقَابِ } ، فإن أهل العلم يختلفون فيه ، فقال إبراهيم النخعي والشعبي وسعيد بن جبير ومحمد بن سيرين : " لا يجزي أن تُعْتَقَ من الزكاة رقبةٌ " ، وهو قول أصحابنا والشافعي . وقال ابن عباس : " أَعْتِقْ من زكاتك " . وكان سعيد بن جبير لا يعتق من الزكاة مخافة جرّ الولاء . وقال مالك في الرقاب : " إنها رقاب يُبتَاعون من الزكاة ويُعْتَقُون فيكون ولاؤهم لجماعة المسلمين دون المُعْتِقِينَ " . قال مالك والأوزاعي : " لا يُعْطَى المكاتَبُ من الزكاة شيئاً ولا عبداً موسراً كان مولاه أو معسراً ، ولا يُعْطَوْنَ من الكفارات أيضاً " ، قال مالك : " لا يُعْتَقُ من الزكاة إلا رقبة مؤمنة " .
قال أبو بكر : لا نعلم خلافاً بين السلف في جواز إعطاء المكاتَب من الزكاة ، فثبت أن إعطاءه مراد بالآية والدفع إليه صدقة صحيحة ؛ وقال الله تعالى : { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ للفُقَرَاءِ } إلى قوله : { وَفِي الرِّقَابِ } وعِتْقُ الرقبة لا يسمى صدقة ، وما أعطي في ثمن الرقبة فليس بصدقة لأن بائعها أخذه ثمناً لعبده فلم تحصل بعتق الرقبة صدقة ، والله تعالى إنما جعل الصدقات في الرقاب فما ليس بصدقة فهو غير مجزىء . وأيضاً فإن الصدقة تقتضي تمليكاً والعبد لم يملك شيئاً بالعتق وإنما سقط عن رقتبه وهو ملك للمولى ، ولم يحصل ذلك الرق للعبد لأنه لو حصل له لوجب أن يقوم فيه مقام المولى فيتصرف في رقبته كما يتصرف المولى ، فثبت أن الذي حصل للعبد إنما هو سقوط ملك المولى وأنه لم يملك بذلك شيئاً ، فلا يجوز أن يكون ذلك مجزياً من الصدقة إذْ شَرْطُ الصدقة وقوع الملك للمتصدق عليه . وأيضاً فإن العتق واقع في ملك المولى غير منتقل إلى الغير ؛ ولذلك ثبت ولاؤه منه ، فغير جائز وقوعه عن الصدقة . ولما قامت الحجة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الولاء لمن أعتق وجب أن لا يكون الولاء لغيره ، فإذا انتفى أن يكون الولاء إلا لمن أعتق ثبت أن المراد به المكاتبون . وأيضاً روى عبد الرحمن بن سهل بن حنيف عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " مَنْ أَعَانَ مُكَاتَبَاً في رَقَبَتِهِ أَوْ غَازِياً في عُسْرَتِهِ أَوْ مُجَاهِداً في سَبِيلِ الله أَظَلَّهُ الله في ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إلاّ ظِلُّهُ " ، فثبت بذلك أن الصدقة على المكاتبين معونة لهم في رقابهم حتى يعتقوا ، وذلك موافق لقوله تعالى : { وَفِي الرِّقَابِ } .
وروى طلحة اليماني عن عبد الرّحمن بن عوسجة عن البراء بن عازب قال : قال أعرابي للنبي صلى الله عليه وسلم : علمني عملاً يدخلني الجنة ! قال : " لَئِنْ كُنْتَ أَقْصَرْتَ الخُطْبَةَ لَقَدْ عَرَضْتَ المَسْأَلَةَ ، أَعْتِقِ النَّسَمَةَ وفُكَّ الرَّقَبَةَ ! " قال : أو ليسا سواء ؟ قال : " لا ، عِتْقُ النَّسَمَةِ أَنْ تَفُوزَ بعِتْقِها وفَكُّ الرَّقَبَةِ أَنْ تُعِينَ في ثَمَنِهَا والمِنْحَةُ الرّكُوبُ والفَيْءُ على ذي الرَّحِمِ الظَّالِمِ ، فإن تُطِقْ ذَلِكَ فأَطْعِمِ الجَائِع وَاسْقِ الظَّمْآنَ وأْمُرْ بالمَعْرُوفِ وانْهَ عَنِ المُنْكَرِ ، فإِنْ لم تُطِقْ ذَلِكَ فكُفَّ لِسَانَكَ إِلاّ مِنْ خَيْرٍ " ؛ فجعل عتق النسمة غير فكّ الرقبة ؛ فلما قال : { وَفي الرِّقَابِ } كان الأوْلى أن يكون في معونتها بأن يعطى المكاتب حتى يفكّ العبد رقبته من الرقّ . وليس هو ابتياعها وعتقها ؛ لأن الثمن حينئذ يأخذه البائع ، وليس في ذلك قربة وإنما القربة في أن يُعْطَى العبدُ نفسه حتى يفكّ به رقبته ، وذلك لا يكون إلا بعد الكتابة لأنه قبلها يحصل للمولى ، وإذا كان مكاتباً فما يأخذه لا يملكه المولى وإنما يحصل للمكاتب فيجزي من الزكاة . وأيضاً فإن عتق الرقبة يُسْقِطُ حقَّ المولى عن رقبته من غير تمليك ولا يحتاج فيه إلى إذن المولى ، فيكون بمنزلة من قضى دين رجل بغير أمره فلا يجزي من زكاته ، وإن دفعه إلى الغارم فقضى به دين نفسه جاز ؛ كذلك إذا دفعه إلى المكاتب فملكه أجزاه عن الزكاة ، وإذا أعتقه لم يجزه لأنه لم يملكه وحصل العتق بغير قبوله ولا إذنه .
قوله تعالى : { وَالغَارِمِينَ } ؛ قال أبو بكر : لم يختلفوا أنهم المدينون ، وفي هذا دليل على أنه إذا لم يملك فضلاً عن دَيْنِهِ مائتي درهم فإنه فقير تحل له الصدقة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أُمِرْتُ أَنْ آخُذَ الصَّدَقَةََ مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ وأَرُدَّهَا في فُقَرَائِكُمْ " . فحصل لنا بمجموع الآية والخبر أن الغارم فقير ، إذ كانت الصدقة لا تُعْطَى إلا الفقراء بقضية قوله صلى الله عليه وسلم : " وأرُدَّها في فُقَرَائِكُمْ " ، وهذا يدل أيضاً على أنه إذا كان عليه دَيْنٌ يحيط بمالِهِ وله مال كثير أنه لا زكاة عليه ، إذ كان فقيراً يجوز له أخذ الصدقة .
والآية خاصة في بعض الغارمين دون بعض ؛ وذلك لأنه لو كان له ألف درهم وعليه دين مائة درهم لم تحل له الزكاة ولم يجز معطيه إياها وإن كان غارماً ، فثبت أن المراد الغريم الذي لا يفضل له عما في يده بعد قضاء دينه مقدار مائتي درهم أو ما يساويها ، فيجعل المقدار المستحق بالدين مما في يده كأنه في غير ملكه وما فضل عنه فهو فيه بمنزلة من لا دَيْنَ عليه .
وفي جعله الصدقة للغارمين دليل أيضاً على أن الغارم إذا كان قويّاً مكتسباً فإن الصدقة تحل له ، إذ لم تفرق بين القادر على الكسب والعاجز عنه .
وزعم الشافعي أن من تحمل حمالة عشرة آلاف درهم وله مائة ألف درهم أن الصدقة تحل له ، وإن كان عليه دين من غير الحمالة لم تحلّ له ، واحتج فيه بحديث قبيصة بن المخارق أنه تحمل حمالة ، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فيها فقال : " إِنَّ المَسْأَلَةَ لا تَحِلُّ إِلاّ لِثَلاَثَةٍ : رَجُلٍ تَحَمَّلَ حمالَةً فَيَسْأَلُ فِيهَا حَتَّى يُؤَدِّيها ، ورَجُلٍ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ فاجْتَاحَتْ مَالَهُ فَيَسْأَلُ حَتّى يُصِيبَ قَوَاماً مِنْ عَيْشٍ ، ورَجُلٍ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ وحَاجَةٌ حَتَّى يَشْهَدَ ثَلاثَةٌ مِنْ ذَوِي الحِجَى مِنْ قَوْمِهِ أَنّ فُلاناً أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ فَحَلّتْ له المسألةُ حَتّى يُصِيبَ سَدَاداً مِنْ عَيْشٍ ثمّ يُمْسِكُ ؛ وما سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ سُحْتٌ " . ومعلوم أن الحمالة وسائر الديون سواء ؛ لأن الحمالة هي الكفالة والحميل هو الكفيل ، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أجاز له المسألة لأجل ما عليه من دين الكفالة وقد عُلم مساواة دين الكفالة لسائر الديون ، فلا فرق بين شيء منها ، فينبغي أن تكون إباحة المسألة لأجل الحمالة محمولة على أنه لم يقدر على أدائها ، وكان الغُرْمُ الذي لزمه بإزاء ما في يده من ماله كما نقول في سائر الديون .
وروى إسرائيل عن جابر بن أبي جعفر في قوله تعالى : { وَالغَارِمِينَ } قال : " المُسْتَدِينُ في غير سَرَف حقّ على الإمام أن يقضي عنه " . وقال سعيد في قوله : { وَالغَارِمِينَ } قال : " ناس عليهم دَيْنٌ من غير فساد ولا إتلاف ولا تبذير فجعل الله لهم فيها سهماً " . وإنما ذكر هؤلاء في الدين أنه من غير سرف ولا إفساد لأنه إذا كان مبذراً مفسداً لم يؤمن إذا قضى دينه أن يستدين مثله فيصرفه في الفساد ، فكرهوا قضاء دين مثله لئلا يجعله ذريعة إلى السرف والفساد ؛ ولا خلاف في جواز قضاء دين مثله ودفع الزكاة إليه . وإنما ذكر هؤلاء عدم الفساد والتبذير فيما استدان على وجه الكراهة لا على جهة الإيجاب ، وروى عبيد الله بن موسى عن عثمان بن الأسود عن مجاهد في قوله : { وَالغَارِمِينَ } قال : " الغارم من ذهب السيل بماله ، أو أصابه حريق فأذهب ماله ، أو رجل له عيال لا يجد ما ينفق عليهم فيستدين " .
قال أبو بكر : أما من ذهب ماله وليس عليه دين فلا يسمَّى غريماً ؛ لأن الغُرْمَ هو اللزوم والمطالبة ، فمن لزمه الدين يسمَّى غريماً ومن له الدين أيضاً يسمَّى غريماً لأن له اللزوم والمطالبة ، فأما من ذهب ماله فليس بغريم وإنما يسمَّى فقيراً أو مسكيناً ؛ وقد رُوي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستعيذ بالله من المأثم والمَغرَمِ ، فقيل له في ذلك ، فقال : " إِنَّ الرَّجُلَ إذا غَرِمَ حَدَّثَ فَكَذَبَ وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ " ، وإنما أراد إذا لزمه الدين ، ويجوز أن يكون مجاهد أراد من ذهب ماله وعليه دين ؛ لأنه إذا كان له مال وعليه دين أقل من ماله بمقدار مائتي درهم فليس هو من الغارمين المرادين بالآية . وروى أبو يوسف عن عبد الله بن سميط عن أبي بكر الحنفي عن أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إِنّ المَسْأَلَةَ لا تَحِلُّ ولا تَصْلُحُ إِلاّ لأَحَدِ ثَلاَثَةٍ : لذي فَقْرٍ مُدْقِعٍ أو لِذِي غُرْمٍ مُفْظِعٍ أوْ لذي دَمٍ مُوجِعٍ " ومعلوم أن مراده بالغرم الدين .
قوله تعالى : { وَفِي سَبِيلِ الله } . روى ابن أبي ليلى عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ ، إلاّ في سَبِيلِ الله أو ابْنِ السَّبِيلِ أوْ رَجُلٍ لَهُ جَارٌ مِسْكِينٌ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ فأَهْدَى لَهُ " .
واختلف الفقهاء في ذلك ، فقال قائلون : " هي للمجاهدين الأغنياء منهم والفقراء " ، وهو قول الشافعي ؛ وقال الشافعي : " لا يُعْطَى منها إلا الفقراء منهم ولا يُعْطَى الأغنياء من المجاهدين ، فإن أُعْطُوا ملكوها وأجزأ المعطي وإن لم يصرفه في سبيل الله ؛ لأن شرطها تمليكه وقد حصل لمن هذه صفته فأجزأ " . وقد رُوي أن عمر تصدق بفرس في سبيل الله فوجده يُباع بعد ذلك ، فأرد أن يَشْتريه ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تَعُدْ في صَدَقَتِكَ ! " فلم يمنع النبي صلى الله عليه وسلم المحمول على الفرس في سبيل الله من بَيْعِها ، وإن أعطى حاجّاً منقطعاً به أجزأ أيضاً . وقد رُوي عن ابن عمر أن رجلاً أوصى بماله في سبيل الله ، فقال ابن عمر : " إن الحج في سبيل الله فاجعله فيه " . وقال محمد بن الحسن في " السِّيَرِ الكبير " في رجل أوْصَى بثلث ماله في سبيل الله : " إنه يجوز أن يجعل في الحاجّ المنقطع به " ، وهذا يدل على أن قوله تعالى : { وَفِي سَبِيلِ الله } قد أُرِيد به عند محمد الحاجّ المنقطع به . وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " الحَجُّ والعُمْرَةُ مِنْ سَبِيلِ الله " . ورُوي عن أبي يوسف فيمن أوصى بثلث ماله في سبيل الله أنه لفقراء الغزاة .
فإن قيل : فقد أجاز النبي صلى الله عليه وسلم لأغنياء الغزاة أخْذَ الصدقة بقوله : " لا تَحِلّ لِغَنِيّ إلا في سَبِيلِ الله " . قيل له : قد يكون الرجل غنيّاً في أهله وبلده بدار يسكنها وأثاث يتأثث به في بيته وخادم يخدمه وفرس يركبه وله فضل مائتي درهم أو قيمتها ، فلا تحلّ له الصدقة ، فإن عزم على الخروج في سفر غزو احتاج من آلات السفر والسلاح والعدة إلى ما لم يكن محتاجاً إليه في حال إقامته فينفق الفضل عن أثاثه وما يحتاج إليه في مِصْرِهِ على السلاح والآلة والعدة ، فتجوز له الصدقة . وجائز أن يكون الفضل عما يحتاج إليه دابة أو سلاحاً أو شيئاً من آلات السفر لا يحتاج إليه في المِصْرِ ، فيمنع ذلك جواز إعطائه الصدقة إذا كان ذلك يساوي مائتي درهم ، وإن هو خرج للغزو فاحتاج إلى ذلك جاز أن يُعْطَى من الصدقة وهو غنيّ في هذا الوجه ؛ فهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم : الصدقة تحلّ للغازي الغني .
قوله تعالى : { وَابْنِ السَّبِيلِ } ، هو المسافر المنقَطَعُ به ، يأخذ من الصدقة وإن كان له مال في بلده ؛ وكذلك رُوي عن مجاهد وقتادة وأبي جعفر . وقال بعض المتأخرين : " هو من يعزم على السفر وليس له ما يتحمل به " . وهذا خطأ ؛ لأن السبيل هو الطريق ، فمن لم يحصل في الطريق لا يكون ابن السبيل ، ولا يصير كذلك بالعزيمة كما لا يكون مسافراً بالعزيمة ؛ وقال تعالى : { ولا جنباً إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا } [ النساء : 43 ] ، قال ابن عباس : " هو المسافر لا يجد الماء فيتيمم " فكذلك ابن السبيل هو المسافر . وجميع من يأخذ الصدقة من هذه الأصناف فإنما يأخذها صدقة بالفقر ، والمؤلَّفةُ قلوبهم والعاملون عليها لا يأخذونها صدقة وإنما تحصل الصدقة في يد الإمام للفقراء ثم يعطي الإمامُ المؤلفة منها لدفع أذِيَّتهم عن الفقراء وسائر المسلمين ، ويعطيها العاملين عوضاً من أعمالهم لا على أنها صدقة عليهم . وإنما قلنا ذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم : " أُمِرْتُ أَنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ وأَرُدَّهَا في فُقَرَائِكُمْ " فتبين أن الصدقة مصروفةٌ إلى الفقراء ، فدل ذلك على أن أحداً لا يأخذها صدقة إلا بالفقر ، وأن الأصناف المذكورين إنما ذُكروا بياناً لأسباب الفقر .
باب الفقير الذي يجوز أن يُعْطَى من الصدقة
مطلب : في بيان حد الغني
قال أبو بكر رحمه الله : اختلف أهل العلم في المقدار الذي إذا ملكه الرجل دخل به في حَدّ الغنِيِّ وخرج به من حَدّ الفقير وحرمت عليه الصدقة ، فقال قوم : " إذا كان عند أهله ما يغذّيهم ويعشّيهم حرمت عليه الصدقة بذلك ، ومن كان عنده دون ذلك حلت له الصدقة " ، واحتجوا بما رواه عبدالرّحمن عن يزيد بن جابر قال : حدثني ربيعة بن يزيد عن أبي كبشة السلولي قال : حدثني سهل ابن الحنظلية قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " مَنْ سَأَلَ النَّاسَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى فإِنّما يَسْتكْثِرُ مِنْ جَمْرِ جَهَنَّمَ " ، قلت : يا رسول الله ما ظَهْرُ غِنًى ؟ قال : " أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ عِنْدَ أَهْلِهِ ما يُغَدِّيهِمْ ويُعَشِّيهِمْ " .
وقال آخرون : " حتى يملك أربعين درهماً أو عدلها من الذهب " ، واحتجوا بما روى مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن رجل من بني أسد قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم ، فسمعته يقول لرجل : " مَنْ سَأَلَ مِنْكُمْ وَعِنْدَهُ أوقِيَّةٌ أو عِدْلُها فَقَدْ سَأَلَ إِلْحافاً " ، والأوقية يومئذ أربعون درهماً .
وقالت طائفة : " حتى يملك خمسين درهماً أو عدلها من الذهب " ، واحتجوا في ذلك بما روى الثوري عن حكيم بن جبير عن محمد بن عبدالرّحمن بن يزيد عن أبيه عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يَسْأَلُ عَبْدٌ مَسْأَلَةٌ ولَهُ ما يُغْنِيهِ إِلاّ جَاءَتْ شَيْئاً أَوْ كُدُوحاً أَوْ خُدُوشاً في وَجْهِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ " ، قيل : يا رسول الله وما غناه ؟ قال : " خَمْسُونَ دِرْهَماً أَوْ حِسَابُهَا مِنَ الذَّهَبِ " . وروى الحجاج عن الحسن بن سعد عن أبيه عن علي وعبدالله قالا : " لا تحل الصدقة لمن له خمسون درهماً أو عِوَضُها من الذهب " . وعن الشعبي قال : " لا يأخذ الصدقة من له خمسون درهماً ولا نعطى منها خمسين درهماً " .
وقال آخرون : " حتى يملك مائتي درهم أو عدلها من غَرَضٍ أو غيره فاضلاً عما يحتاج إليه من مسكن وخادم وأثاث وفرس " ، وهو قول أصحابنا . والدليل على ذلك ما روى أبو بكر الحنفي قال : حدثنا عبدالله بن جعفر قال : حدثني أبي عن رجل من مُزَيْنَةَ أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " مَنْ سَأَلَ وَلَهُ عِدْلُ خَمْسِ أَوَاقٍ سَأَلَ إِلْحافاً " . ويدل عليه ما روى الليث بن سعد قال : حدثني سعيد بن أبي سعيد المقبري عن شريك بن عبدالله بن أبي نمر أنه سمع أنس بن مالك يقول : إن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم : ألله أمرك أن تأخذ هذه الصدقة من أغنيائنا فنقسمها على فقرائنا ؟ فقال : " اللّهمَّ نَعَمْ " . وروى يحيى بن عبدالله بن صيفي عن أبي معبد عن ابن عباس ، أن النبي صلى الله عليه وسلم حين بعث معاذاً إلى اليمن قال له : " أَخْبِرْهُمْ أَنَّ الله قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ إِلى فُقَرَائِهِمْ " . وروى الأشعث عن ابن أبي جُحَيْفَة عن أبيه : " أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث ساعياً على الصدقة ، فأمره أن يأخذ الصدقة من أغنيائنا فيقسمها في فقرائنا " .
فلما جعل النبي صلى الله عليه وسلم الناس صنفين فقراء وأغنياء وأوجب أخْذَ الصدقة من صنف الأغنياء وردَّها في الفقراء ، لم تَبْقَ ههنا واسطة بينهما ، ولما كان الغنيّ هو الذي ملك مائتي درهم ، وما دونها لم يكن مالكها غنيّاً ، وجب أن يكون داخلاً في الفقراء فيجوز له أخذها ؛ ولما اتفق الجميع على أن من كان له دون الغداء والعشاء تحلّ له الصدقة علمنا أنها ليست إباحتها موقوفة على الضرورة التي تحل معها الميتة ، فوجب اعتبار ما يدخل به في حدّ الغِنَى وهو أن يملك فضلاً عما يحتاج إليه مما وصفنا مائتي درهم أو مثلها من عَرَضٍ أو غيره ، وأما ملك الأربعين درهماً والخمسين درهماً على ما رُوي في الأخبار التي قدمنا فإن هذه الأخبار واردة في كراهة المسألة لا في تحريمها ، وقد تُكره المسالة لمن عنده ما يغنيه في الوقت لا سيما في أول ما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة مع كثرة فقراء المسلمين وقلة ذات أيديهم ، فاستحبَّ النبي صلى الله عليه وسلم لمن عنده ما يكفيه ترك المسألة ليأخذها من هو أَوْلى منه ممن لا يجد شيئاً ، وهو نحو قوله صلى الله عليه وسلم : " مَنِ اسْتَغْنَى أَغْنَاهُ الله ومَنِ اسْتَعَفَّ أَعَفَّهُ الله ومن لا يَسْأَلُنَا أَحَبُّ إِلَيْنَا مِمّن يَسْأَلُنَا " ، وقوله صلى الله عليه وسلم : " لأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلاً فَيَحْتَطِبَ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النّاسَ أَعْطُوهُ أَوْ مَنَعُوهُ " . وقد رُوي عن فاطمة بنت الحسين عن الحسين بن علي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " للسَّائِلِ حَقٌّ وَإِنْ جَاءَ عَلَى فَرَسٍ " ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بإعطاء السائل مع ملكه للفرس ، والفرسُ في أكثر الحال تساوي أكثر من أربعين درهماً أو خمسين درهماً . وقد روى يحيى بن آدم قال : حدثنا علي بن هاشم عن إبراهيم بن يزيد المكي عن الوليد بن عبيدالله عن ابن عباس قال : سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن لي أربعين درهماً أفمسكين أنا ؟ قال : " نعم " . وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا يعقوب بن يوسف المطوعي قال : حدثنا أبو موسى الهروي قال : حدثنا المعافى قال : حدثنا إبراهيم بن يزيد الجزري قال : حدثنا الوليد بن عبدالله بن أبي مغيث عن ابن عباس قال : قال رجل : يا رسول الله عندي أربعون درهماً أمسكين أنا ؟ قال : " نعم " ، فأباح له الصدقة مع ملكه لأربعين درهماً حين سمّاه مسكيناً ، إذْ كان الله قد جعل الصدقة للمساكين . وروى أبو يوسف عن غالب بن عبيد الله عن الحسن قال : " كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل أحدهم الصدقة وله من السلاح والكراع والعقار قيمة عشرة آلاف درهم " . وروى الأعمش عن إبراهيم قال : " كانوا لا يمنعون الزكاة من له البيت والخادم " . وروى شعبة عن قتادة عن الحسن قال : " من له مسكن وخادم أُعْطِيَ من الزكاة " . وروى جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير قال : " يُعْطَى من له دار وخادم وفرس وسلاح ، يُعْطى من إذا لم يكن له ذلك الشيء احتاج إليه " .
وقد اخْتُلف في ذلك من وجه آخر ، فقال قائلون : " من كان قويّاً مكتسباً لم تحل له الصدقة وإن لم يملك شيئاً " ، واحتجوا بما رَوَى أبو بكر بن عياش عن أبي حصين عن سالم بن أبي الجعد عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لغَنِيٍّ ، ولا لذي مِرَّةٍ سَوِيٍّ " ، ورواه أبو بكر بن عياش أيضاً عن أبي جعفر عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله . وروى سعد بن إبراهيم عن ريحان بن يزيد عن عبدالله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لغَنيٍّ ولا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ " ، وهذا عندنا على وجه الكراهة لا على جهة التحريم ، على النحو الذي ذكرنا في كراهة المسألة .
فإن قيل : قوله : " لا تحلّ الصدَقَةُ لغنيٍّ " على وجه التحريم وامتناع جواز إعطائه الزكاة ، كذلك القوي المكتسب . قيل له : يجوز أن يريد الغنيَّ الذي يستغني به عن المسألة ، وهو أن يكون له أقلّ من مائتي درهم ، لا الغني الذي يجعله في حيّز من يملك ما تجب في مثله الزكاة ، إذ قد يجوز أن يسمَّى غنيّاً لا ستغنائه بما يملكه عن المسألة ، ولم يُرِدْ به الغني الذي يتعلق بملك مثله وجوب الغنى ، فكان قوله : " لا تحلّ الصدقةُ لغنيّ ولا لذي مِرَّةٍ سَوِيّ " على وجه الكراهة للمسألة لمن كان في مثل حاله . وعلى أن حديث أبي هريرة هذا في قوله : " لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مِرَّة سويّ " مختلَفٌ في رفعه ، فرواه أبو بكر بن عياش مرفوعاً على ما قدمنا ، ورواه أبو يوسف عن حصين عن أبي حازم عن أبي هريرة من قوله غير مرفوع . وحديث عبدالله بن عمرو رواه شعبة والحسن بن صالح عن سعد بن إبراهيم عن ريحان بن يزيد عن عبدالله بن عمرو موقوفاً عليه من قوله ، وقال : " لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مِرّة سويّ " . ورواه سفيان عن سعد بن إبراهيم عن ريحان بن يزيد عن عبدالله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ ولا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ " ، فاختلفوا في رفعه ، وظاهر قوله تعالى : { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ للفُقَرَاءِ والمَسَاكِينِ } عام في سائرهم ، من قدر منهم على الكسب ومن لم يقدر ، وكذلك قوله تعالى : { وفي أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم } [ الذاريات : 19 ] يقتضي وجوب الحقّ للسائل القوي المكتسب ، إذ لم تفرق الآية بينه وبين غيره . ويدل أيضاً قوله تعالى : { للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضرباً في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف } [ البقرة : 273 ] ، ولم يفرق بين القويّ المكتسب وبين من لا يكتسب من الضعفاء . فهذه الآيات كلها قاضية ببطلان قول القائل بأن الزكاة لا تُعْطَى الفقير إذا كان قويّاً مكتسباً ، ولا يجوز تخصيصها بخبر أبي هريرة وعبدالله بن عمرو اللذين ذكرنا لاختلافهم في رفعه واضطراب متنه ؛ لأن بعضهم يقول : " قويّ مكتسب " وبعضهم : " لذي مرة سويّ " .
وقد رُويت أخبارٌ هي أشدّ استفاضةً وأصح طرقاً من هذين الحديثين معارضةٌ لهما ، منها حديث أنس وقبيصة بن المخارق أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إِنّ الصَّدَقَةَ لا تَحِلُّ إِلاّ في إِحْدَى ثَلاثٍ " فذكر إحداهن : " فقْر مُدْقِع " ، وقال : " أَوْ رَجُل أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ أَوْ رَجُلٍ أًصَابَتْهُ جَائِحَةٌ " ولم يشرط في شيء منها عدم القوة والعجز عن الاكتساب ؛ ومنها حديث سليمان أنه حمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة ، فقال لأصحابه : " كُلُوا ! " ولم يأكل ، ومعلوم أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا أقوياء مكتسبين ، ولم يخصَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بها من كان منهم زَمِناً أو عاجزاً عن الاكتساب . ومنها حديث عروة بن الزبير عن عبيد الله بن عدي بن الخيار أن رجلين من العرب حدثاه أنهما أتيا النبي صلى الله عليه وسلم فسألاه من الصدقة ، فصعَّد فيهما البصر وصوَّبه فرآهما جَلْدَيْنَ فقال : " إِنْ شِئْتُما أَعْطَيْتُكُمَا ولا حَظَّ لِغَنِيٍّ لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ " فلما قال لهما : " إنْ شِئتما أعطيتكما " ولو كان محرماً ما أعطاهما مع ما ظهر له من جَلَدِهما وقوتهما ، وأخبر مع ذلك أنه لا حظّ فيها لغنيّ ولا لقويّ مكتسب ، فدل على أنه أراد بذلك كراهة المسألة ومحبة النزاهة لمن كان معه ما يغنيه أو قدر على الكسب فيستغني به عنها .
وقد يُطلق مثل هذا على وجه التغليظ لا على وجه تحقيق المعنى ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لَيْسَ بمُؤْمِنٍ مَنْ يَبِيتُ شَبْعاناً وجَارُهُ جَائِعٌ " ، وقال : " لا دِينَ لمَنْ لا أَمَانَةَ لَهُ " ، وقال : " لَيْسَ المِسْكِينُ بالطَّوَّافِ الذي تَرُدُّهُ اللقْمَةُ واللُّقْمَتَانِ " ولم يُرِدْ به نفي المسكنة عنه رأساً حتى تحرم عليه الصدقة ، وإنما أراد ليس حكمه كحكم الذي لا يسأل ؛ وكذلك قوله : " ولا حَقَّ فِيهَا لِغَنِيٍّ ولا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ " على معنى أنه ليس حقه فيها كحق الزَّمِنِ العاجز عن الكسب ؛ ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم : " أُمِرْتُ أَنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ وأَرُدَّها في فُقَرَائِكُمْ " فعمَّ سائر الفقراء الزَّمْنَى منهم والأصحّاء . وأيضاً قد كانت الصدقات والزكوات تُحمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيعطيها فقراء الصحابة من المهاجرين والأنصار وأهل الصُّفَّةِ وكانوا أقوياء مكتسبين ، ولم يكن يخص بها الزمْنَى دون الأصحّاء ، وعلى هذا أمْرُ الناس من لَدُن النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى يومنا يخرجون صدقاتهم إلى الفقراء الأقوياء والضعفاء منهم لا يعتبرون منها ذوي العاهات والزمانة دون الأقوياء الأصحاء ، ولو كانت الصدقة محرمة وغير جائزة على الأقوياء المكتسبين الفروض منها أو النوافل لكان من النبيّ صلى الله عليه وسلم توقيفٌ للكافّة عليه لعموم الحاجة إليه ، فلما لم يكن من النبي صلى الله عليه وسلم توقيف للكافة على حَظْرِ دفع الزكوات إلى الأقوياء من الفقراء والمتكسّبين من أهل الحاجة لأنه لو كان منه توقيف للكافة لورد النقل به مستفيضاً ، دلّ ذلك على جواز إعطائها الأقوياء المتكسّبين من الفقراء كجواز إعطائها الزَّمْنَى والعاجزين عن الاكتساب .
باب ذوي القربى الذين تحرم عليهم الصدقة
قال أصحابنا : من تحرم عليهم الصدقة منهم آل العباس وآل علي وآل جعفر وآل عقيل وولد الحارث بن عبد المطلب جميعاً . وحكى الطحاوي عنهم : وولد عبد المطلب ، ولم أجد ذلك عنهم رواية . والذي تحرم عليهم من ذلك الصدقات المفروضة ، وأما التطوع فلا بأس به . وذكر الطحاوي أنه رُوي عن أبي حنيفة وليس بالمشهور أن فقراء بني هاشم يدخلون في آية الصدقات ، ذكره في أحكام القرآن ، قال : وقال أبو يوسف ومحمد : لا يدخلون .
قال أبو بكر : المشهور عن أصحابنا جميعاً من قدّمنا ذِكْرَهُ من آل العباس وآل علي وآل جعفر وآل عقيل وولد الحارث بن عبدالمطلب ، وأن تحريم الصدقة عليهم خاصٌّ في المفروض منه دون التطوع . وروى ابن سماعة عن أبي يوسف أن الزكاة من بني هاشم تحل لبني هاشم ولا يحل ذلك من غيرهم لهم . وقال مالك : " لا تحل الزكاة لآل محمد والتطوع يحلّ " . وقال الثوري : " لا تحل الصدقة لبني هاشم " ولم يذكر فرقاً بين النفل والفرض . وقال الشافعي : " تحرم صدقة الفرض على بني هاشم وبني عبد المطلب ، ويجوز صدقة التطوع على كل أحد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه كان لا يأخذها " .
والدليل على أن الصدقة المفروضة محرمة على بني هاشم حديث ابن عباس قال : " ما خصنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء دون الناس إلا بثلاثٍ : إسباغ الوضوء وأن لا نأكل الصدقة وأن لا نُنْزي الحميرَ على الخيلِ " . ورُوي أن الحسن بن علي أخذ تمرة من الصدقة فجعلها في فيه ، فأخرجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : " إنَّا آل مُحَمَّدٍ لا تَحِلُّ لنا الصَّدَقَةُ " . وحدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا نصر بن علي قال : حدثنا أبي عن خالد بن قيس عن قتادة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم وجد تمرة فقال : " لَوْلا أنّي أخَافُ أَنْ تَكُونَ صَدَقَةً لأَكَلْتُها " . وروى بَهْزُ بن حكيم عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم : " في الإِبِلِ السَّائِمَةِ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ ابْنَةُ لَبُونٍ مَنْ أَعْطَاهَا مُؤْتَجِراً فَلَهُ أَجْرُهَا ومَنْ مَنَعَها فَإِنَّا آخِذُوهَا وشَطْرَ مَالِهِ ، لا يَحِلُّ لآلِ مُحَمدٍ مِنهَا شَيْءٌ " . ورُوي من وجوه كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : " إِنَّ الصَّدَقَةَ لا تَحِلُّ لآلِ مُحَمَّدٍ إنما هي أوْسَاخُ النَّاسِ " . فثبت بهذه الأخبار تحريم الصدقات المفروضات عليهم .
فإن قيل : روى شريك عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس قال : قدم عِيرُ المدينة ، فاشترى منها النبي صلى الله عليه وسلم متاعاً فباعه بربح أواق فضة ، فتصدق بها على أرامل بني عبد المطلب ثم قال : " لا أَعُودُ أَنْ أَشْتَرِي بَعْدَها شَيْئاً ولَيْسَ ثَمَنُهُ عِنْدِي " ، فقد تصدق على هؤلاء وهن هاشميات . قيل له : ليس في الخبر أنهن كنّ هاشميات ، وجائز أن لا يكنَّ هاشميات بل زوجات بني عبد المطلب من غير بني عبد المطلب ، بل عربيات من غيرهم ، وكنّ أزواجاً لبني عبد المطلب فماتوا عنهن . وأيضاً فإن ذلك كان صدقة تطوع ، وجائز أن يتصدق عليهم بصدقة التطوع . وأيضاً فإن حديث عكرمة الذي ذكرناه أوْلى ؛ لأن حديث ابن عباس أخبر فيه بحكمه فيهم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فالحظر متأخر للإباحة ، فهذا أوْلى ؛ وأما بنو المطلب فليسوا من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم لأن قرابتهم منه كقرابة بني أمية ، ولا خلاف أن بني أمية ليسوا من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك بنو المطلب .
فإن قيل : لما أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم من الخُمْسِ سَهْمَ ذوي القربى كما أعطى بني هاشم ولم يعط بني أمية دل ذلك على أنهم بمنزلة بني هاشم في تحريم الصدقة . قيل له : إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعطهم للقرابة فحسب ؛ لأنه لما قال عثمان بن عفان وجبير بن مطعم : يا رسول الله أما بنو هاشم فلا ننكر فضلهم لقربهم منك وأما بنو المطلب فنحن وهم في النسب شيء واحد فأعْطَيْتَهم ولم تعطنا ! فقال صلى الله عليه وسلم : " إِنَّ بني المُطَّلِبِ لم تُفَارِقْني في جَاهِلِيَّةٍ ولا إسْلامٍ " ، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يعطهم بالقرابة فحسب بل بالنصرة والقرابة ، ولو كانت إجابتهم إياه ونصرتهم له في الجاهلية والإسلام أصلاً لتحريم الصدقة لوجب أن يخرج منها آل أبي لهب وبعض آل الحارث بن عبد المطلب من أهل بيته لأنهم لم يجيبوه ، وينبغي أن لا تحرم على مَنْ وُلد في الإسلام من بني أمية لأنهم لم يخالفوه ، وهذا ساقط . وأيضاً فإن سهم الخمس إنما يستحقه خاصٌّ منهم وهو موكول إلى اجتهاد الإمام ورأيه ، ولم يثبت خصوص تحريم الصدقة في بعض آل النبي صلى الله عليه وسلم . وأيضاً فليس استحقاق سهم من الخمس أصلاً لتحريم الصدقة ؛ لأن اليتامى والمساكين وابن السبيل يستحقّون سهماً من الخمس ولم تحرم عليهم الصدقة ، فدل على أن استحقاق سهم من الخمس ليس بأصل في تحريم الصدقة .
واخْتُلِفَ في الصدقة على موالي بني هاشم وهل أُريدوا بآية الصدقة ، فقال أصحابنا والثوري : " مواليهم بمنزلتهم في تحريم الصدقات المفروضات عليهم " ، وقال مالك بن أنس : " لا بأس بأن يُعْطَى مواليهم " . والذي يدل على القول الأول حديثُ ابن عباس أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم استعمل أرقم بن أرقم الزهريَّ على الصدقة ، فاستتبع أبا رافع ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إِنَّ الصَّدَقَةَ حَرَامٌ عَلى مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّدٍ وإِنّ مَوْلَى القَوْمِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ " . ورُوي عن عطاء بن السائب عن أم كلثوم بنت علي عن مولى لهم يقال له هرمز أو كيسان ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : " يا أبا فلان إنّا أهْلُ بَيْتٍ لا نَأْكُلُ الصَّدَقَةَ وإنَّ مَوْلَى القَوْمِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ فلا تَأْكُلِ الصَّدَقَةَ " . وأيضاً لما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " الوَلاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ " وكانت الصدقة محرمة على من قَرُبَ نسبه من النبي صلى الله عليه وسلم وهم بنو هاشم ، وجب أن يكون مواليهم بمثابتهم ، إذ كان النبي صلى الله عليه وسلم قد جعله لحمة كالنسب .
واختلف في جواز أخذ بني هاشم للعمالة من الصدقة إذا عملوا عليها ، فقال أبو يوسف ومحمد من غير خلاف ذكراه عن أبي حنيفة : " لا يجوز أن يعمل على الصدقة أحد من بني هاشم ولا يأخذ عمالته منها " ، قال محمد : " وإنما يصنع ما كان يأخذه علي بن أبي طالب رضي الله عنه في خروجه إلى اليمن على أنه كان يأخذ من غير الصدقة " . قال أبو بكر : يعني بقوله : " لا يعمل على الصدقة " على معنى أنه يعملها ليأخذ عمالتها ، فأما إذا عمل عليها متبرعاً على أن لا يأخذ شيئاً فهذا لا خلاف بين أهل العلم في جوازه . وقال آخرون : " لا بأس بالعمالة لهم من الصدقة " . والدليل على صحة القول الأول ما حدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا علي بن محمد قال : حدثنا مسدد قال : حدثنا معمر قال : سمعت أبي يحدث عن جيش عن عكرمة عن ابن عباس قال : بعث نوفل بن الحارث ابنيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : انطلقا إلى عمكما لعله يستعملكما على الصدقة ، فجاءا فحدّثا نبي الله صلى الله عليه وسلم بحاجتهما ، فقال لهما نبي الله صلى الله عليه وسلم : " لا يَحِلُّ لَكُمْ أَهْل البَيْتِ مِنَ الصَّدَقَاتِ شَيءٌ لأنّها غُسَالَةُ الأَيْدِي ، إنّ لَكُمْ في خُمْسِ الخُمْسِ ما يُغْنِيكُما أو يَكْفِيكُما " . ورُوي عن علي أنه قال للعباس : سل النبي صلى الله عليه وسلم أن يستعملك على الصدقة ، فسأله فقال : " ما كُنْتُ لأَسْتَعْمِلَكَ عَلَى غُسَالَةِ ذُنُوبِ النَّاسِ " . ورُوي أن الفضل بن العباس وعبدالمطلب بن ربيعة بن الحارث سألا النبي صلى الله عليه وسلم أن يستعملهما على الصدقة ليصيبا منها ، فقال : " إِنّ الصَّدَقَةَ لا تَحِلُّ لألِ مُحمدٍ " فمنعهما أخذ العمالة ومنع أبا رافع ذلك أيضاً وقال : " مَوْلَى القَوْمِ مِنْهُمْ " .
واحتج المبيحون لذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عليّاً إلى اليمن على الصدقة ، رواه جابر وأبو سعيد جميعاً . ومعلوم أنه قد كانت ولايته على الصدقات وغيرها ، ولا حجة في هذا لهم ؛ لأنه لم يذكر أن عليّاً أخذ عمالته منها ؛ وقد قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : " خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً " ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يأخذ من الصدقة عمالة ، وقد كان علي بن أبي طالب حين خرج إلى اليمن فولي القضاء والحرب بها ، فجائز أن يكون أخذ رزقه من مال الفيء لا من جهة الصدقة .
فإن قيل : فقد يجوز أن يأخذ الغنيّ عمالته منها وإن لم تحل له الصدقة فكذلك بنو هاشم . قيل له : لأن الغنيّ من أهل هذه الصدقة لو افتقر أخذ منها والهاشمي لا يأخذ منها بحال .
فإن قيل : إن العامل لا يأخذ عمالته صدقة وإنما يأخذها أجرة لعمله كما رُوي أن بَرِيرَةَ كانت تهدي للنبي صلى الله عليه وسلم مما يتصدق به عليها ويقول صلى الله عليه وسلم : " هِيَ لَها صَدَقَةٌ ولنا هَدِيَّةٌ " . قيل له : الفصل بينهما أن الصدقة كانت تحصل في ملك بريرة ثم تهديها للنبي صلى الله عليه وسلم ، فكان بين ملك المتصدق وبين ملك النبي صلى الله عليه وسلم واسطة ملك آخر ، وليس بين ملك المأخوذ منه وبين ملك العامل واسطة لأنها لا تحصل في ملك الفقراء حتى يأخذها العامل .
باب من لا يجوز أن يُعْطَى من الزكاة من الفقراء
قال الله تعالى : { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ للفُقَرَاءِ وَالمَسَاكِينِ } فاقتضى ظاهرُه جوازَ إعطائها لمن شمله الاسم منهم قريباً كان أو بعيداً لولا قيام الدلالة على منعِ إعطاء بعض الأقرباء . وقد اختلف الفقهاء في ذلك ، فقال أصحابنا جميعاً : " لا يُعْطى منها والداً وإن علا ولا ولداً وإن سفل ولا امرأة " . وقال مالك والثوري والحسن بن صالح : " لا يُعْطَى من تلزمه نفقته " . وقال ابن شبرمة : " لا يعطي من الزكاة قرابتُه الذين يرثونه وإنما يُعْطي من لا يرثه وليس في عياله " . وقال الأوزاعي : " لا يتخطى بزكاة ماله فقراء أقاربه إذا لم يكونوا من عياله ويتصدق على مواليه من غير زكاة لماله " . وقال الليث : " لا يعطى الصدقة الواجبة من يعول " . وقال المزني عن الشافعي في مختصره : " ويعطى الرجل من الزكاة من لا تلزمه نفقته من قرابته ، وهم من عدا الولد والوالد والزوجة إذا كانوا أهل حاجة فهم أحقّ بها من غيرهم وإن كان ينفق عليهم تطوعاً " .
قال أبو بكر : فحصل من اتفاقهم أن الولد والوالد والزوجة لا يُعْطَوْن من الزكاة ؛ ويدل عليه أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم : " أَنْتَ ومَالُكَ لأبِيكَ " وقال : " إِنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ وإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ " ؛ فإذا كان مال الرجل مضافاً إلى أبيه وموصوفاً بأنه من كسبه فهو متى أعطى ابنه فكأنه باقٍ في ملكه لأن ملك ابنه منسوب إليه فلم تحصل صدقة صحيحة ، وإذا صح ذلك في الابن فالأب مثله إذْ كل واحد منهما منسوب إلى الآخر من طريق الولادة ، وأيضاً قد ثبت عندنا بطلان شهادة كل واحد منهما لصاحبه ، فلما جعل كل واحد منهما فيما يحصّله بشهادته لصاحبه كأنه يحصّله لنفسه وجب أن يكون إعطاؤه إياه الزكاة كتبقيته في ملكه ، وقد أخذ عليه في الزكاة إخراجها إلى ملك الفقير إخراجاً صحيحاً ، ومتى أخرجها إلى من لا تجوز له شهادته فلم ينقطع حقه عنه وهو بمنزلة ما هو باقٍ في ملكه فلذلك لم يجزه ، ولهذه العلة لم يجز أن يعطي زوجته منها ، وأما اعتبار النفقة فلا معنى له ؛ لأن النفقة حق يلزمه ، وليس بآكد من الديون التي ثبتت لبعضهم على بعض ، فلا يمنع ثبوتها من جواز دفع الزكاة إليه . وعموم الآية يقتضي جواز دَفْعِها إليه باسم الفقر ، ولم تقم الدلالة على تخصيصه ، فلم يجز إخراجها لأجل النفقة من عمومها ، وأيضاً قال النبي صلى الله عليه وسلم : " خَيْرُ الصَّدَقَةِ ما كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى وابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ " ، وذلك عموم في جواز دفع سائر الصدقات إلى من يعول ، وخرج الولد والوالد والزوجان بدلالة .
فإن قيل : إنما لم يَجُزْ إعطاء الوالد والولد لأنه تلزمه نفقته . قيل له : هذا غلط ؛ لأنه لو كان الولد والوالد مستغنِيَيْنِ بقدر الكَفَافِ ولم تكن على صاحب المال نفقتهما لما جاز أن يعطيهما من الزكاة ؛ لأنهما ممنوعان منها مع لزوم النفقة وسقوطها ، فدل على أن المانع من دفعها إليهما أن كل واحد منهما منسوب إلى الآخر بالولادة وأن واحداً منهما لا تجوز شهادته للآخر ، وكل واحد من المعنيين علة في منع دفع الزكاة .
واختلفوا في إعطاء المرأة زوجها من زكاة المال ، قال أبو حنيفة ومالك : " لا تعطيه " ، وقال أبو يوسف ومحمد والثوري والشافعي : " تعطيه " . والحجة للقول الأول أنه قد ثبت أن شهادة كل واحد من الزوجين لصاحبه غير جائزة ، فوجب أن لا يعطي واحد منهما صاحبه من زكاته لوجود العلة المانعة من دفعها في كل واحد منهما .
واحتج المجيزون لدفع زكاتها إليه بحديث زينب امرأة عبدالله بن مسعود حين سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الصدقة على زوجها عبدالله وعلى أيتام لأخيها في حجرها ، فقال : " لَكِ أَجْرَانِ أَجْرُ الصَّدَقَةِ وأَجْرُ القَرَابَةِ " . قيل له : كانت صدقةً تطوع ، وألفاظ الحديث تدل عليه ؛ وذلك لأنه ذكر فيه أنها قالت لما حثَّ النبي صلى الله عليه وسلم النساء على الصدقة وقال : " تَصَدَّقْنَ ولو بحُلِيِّكُنَّ " : جمعت حُلِيّاً لي وأردت أن أتصدق ، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم . وهذا يدل على أنها كانت صدقة تطوع .
فإن احتجوا بما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال : حدثنا ابن ناجية قال : حدثنا أحمد بن حاتم قال : حدثنا علي بن ثابت قال : حدثني يحيى بن أبي أنيسة الجزري عن حماد بن إبراهيم عن علقمة عن عبدالله ، أن زينب الثقفية امراة عبد الله سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : إن لي طوقاً فيه عشرون مثقالاً أفأؤدي زكاته ؟ قال : " نَعَمْ نِصْفَ مِثْقَالٍ " ، قالت : فإن في حجري بنتي أخ لي أيتاماً أفأجعله أو أضعه فيهم ؟ قال : " نعم " ، فبين في هذا الحديث أنها كانت من زكاتها . قيل له : ليس في هذا الحديث ذِكْرُ إعطاء الزوج وإنما ذكر فيه إعطاء بني أخيها ونحن نجيز ذلك ، وجائز أن تكون سألته عن صدقة التطوع على زوجها وبني أخيها فأجازها وسألته في وقت آخر عن زكاة الحليّ ودَفْعِها إلى بني أخيها فأجازها ، ونحن نجيز دفع الزكاة إلى بني الأخ .
واخْتُلِفَ في إعطاء الذميّ من الزكاة ، فقال أصحابنا ومالك والثوري وابن شبرمة والشافعي : " لا يُعْطَى الذميُّ من الزكاة " . وقال عبيدالله بن الحسن : " إذا لم يجد مسلماً أعْطَى الذميّ " فقيل له : فإنه ليس بالمكان الذي هو به مسلم وفي موضع آخر مسلم ؛ فكأنه ذهب إلى إعطائها للذميّ الذي هو بين ظهرانيهم . والحجة للقول الأول قَوْلُ النبي صلى الله عليه وسلم : " أُمِرْتُ أَنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ وأَرُدَّهَا في فُقَرَائِكُمْ " فاقتضى ذلك أن يكون كل صدقة أخذا إلى الإمام مقصورة على فقراء المسلمين ولا يجوز إعطاؤها الكفار ؛ ولما اتفقوا على أنه إذا كان هناك مسلمون لم يُعْطَ الكفار ثبت أن الكفار لا حظّ لهم في الزكاة ، إذْ لو جاز إعطاؤها إياهم بحال لجاز في كل حال لوجود الفقر كسائر فقراء المسلمين .
واختلفوا في دفع الزكاة إلى رجل واحد ، فقال أصحابنا : " يجوز أن يعطي جميعَ زكاته مسكيناً واحداً " . وقال مالك : " لا بأس أن يعطي الرجل زكاة الفطر عن نفسه وعياله مسكيناً واحداً " . وقال المزني عن الشافعي : " وأقل ما يعطي أهل السهم من سهام الزكاة ثلاثة فإن أعطى اثنين وهو يجد الثالث ضمن ثلث سهم " . قال أبو بكر : قوله تعالى : { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ } اسم للجنس في المدفوع والمدفوع إليهم ، وأسماء الأجناس إذا أُطلقت فإنها تتناول المسميات بإيجاب الحكم فيها على أحد معنيين : إما الكل وإما أدناه ، ولا تختص بعدد دون عدد لا بدلالة ، إذْ ليس فيها ذكر العدد ، ألا ترى إلى قوله تعالى : { والسارق والسارقة } [ المائدة : 38 ] وقوله : { الزانية والزاني } [ النور : 2 ] وقوله : { وخلق الإنسان ضعيفاً } [ النساء : 28 ] ونحوها من أسماء الأجناس أنها تتناول كل واحد من آحادها على حياله لا على طريق الجمع ؟ ولذلك قال أصحابنا فيمن قال : إن تزوجتُ النساء أو اشتريتُ العبيد ، أنه على الواحد منهم ، ولو قال : إن شريتُ الماء أو أكلت الطعام ، كان على الجزء منها لا على استيعاب جميع ما تحته ؛ وقالوا : لو أراد بيمنيه استيعاب الجنس كان مصدقاً ولم يحنث أبداً ، إذْ كان مقتضى اللفظ أحد معنيين إما استيعاب الجميع أو أدْنى ما يقع عليه الاسم منه وليس للجميع حظّ في ذلك ، فلا معنى لاعتبار العدد فيه . وإذا ثبت ما وصفنا واتفق الجميع على أنه لم يُرِدْ بآية الصدقات استيعاب الجنس كله حتى لا يحرم واحد منهم ، سقط اعتبار العدد فيه ، فبطل قول من اعتبر ثلاثة منهم . وأيضاً لما لم يكن ذلك حقّاً لإنسان بعينه وإنما هو حق الله تعالى يصرف في هذا الوجه وجب أن لا يختلف حكم الواحد والجماعة في جواز الإعطاء ؛ ولأنه لو وجب اعتبار العدد لم يكن بعض الأعداد أوْلى بالاعتبار من بعض ، إذْ لا يختص الاسم بعدد دون عدد . وأيضاً لما وجب اعتبار العدد وقد علمنا تعذر استيفائه لأنهم لا يُحْصَوْن دلّ على سقوط اعتباره ، إذْ كان في اعتباره ما يؤديه إلى إسقاطه . وقد اختلف أبو يوسف ومحمد فيمن أوصى بثلث ماله للفقراء ، فقال أبو يوسف : " يجزيه وَضْعُه في فقير واحد " ، وقال محمد : " لا يجزي إلا في اثنين فصاعداً " ؛ شبهه أبو يوسف بالصدقات وهو أقيس .
واخْتُلِف في موضع أداء الزكاة ، فقال أصحابنا أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد : " تقسم صدقة كل بلد في فقرائه ولا يخرجها إلى غيره ، إن أخرجها إلى غيره فأعطاها الفقراء جاز ويُكره " . ورَوَى عليّ الرازي عن أبي سليمان عن ابن المبارك عن أبي حنيفة قال : " لا بأس بأن يبعث الزكاة من بلد إلى بلد آخر إلى ذي قرابته " ، قال أبو سليمان : فحدثت به محمد بن الحسن فقال : هذا حسن ، وليس لنا في هذا سماع عن أبي حنيفة ؛ قال أبو سليمان : فكتبه محمد بن الحسن عن ابن المبارك عن أبي حنيفة . وذكر الطحاوي عن ابن أبي عمران قال : أخبرنا أصحابنا عن محمد بن الحسن عن أبي سليمان عن عبدالله بن المبارك عن أبي حنيفة قال : " لا يخرج الرجل زكاته من مدينة إلى مدينة إلا لذي قرابته " . وقال أبو حنيفة في زكاة الفطر : " يؤديها حيث هو وعن أولاده الصغار حيث هم وزكاة المال حيث المال " . وقال مالك : " لا تنقل صدقة المال من بلد إلى بلد إلا أن تفضل فتنقل إلى أقرب البلدان إليهم " قال : " ولو أن رجلاً من أهل مصر حلّت زكاته عليه وماله بمصر وهو بالمدينة فإنه يقسم زكاته بالمدينة ويؤدي صدقة الفطر حيث هو " . وقال الثوري : " لا تنقل من بلد إلى بلد إلا أن لا يجد من يعطيه " . وكره الحسن بن صالح نقلها من بلد إلى بلد . وقال الليث فيمن وجبت عليه زكاة ماله وهو ببلد غير بلده : " إنه إن كانت رجعته إلى بلده قريبة فإنه يؤخّر ذلك حتى يقدم بلده فيخرجها ، ولو أدّاها حيث هو رجوت أن تجزي ، وإن كانت غيبته طويلة وأراد المقام بها فإنه يؤدي زكاته حيث هو " . وقال الشافعي : " إن أخرجها إلى غير بلده لم يبن لي أن عليه الإعادة " .
قال أبو بكر : ظاهر قوله تعالى : { إِنّما الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ والمَسَاكِينِ } يقتضي جواز إعطائها في غير البلد الذي فيه المال وفي أي موضع شاء ؛ ولذلك قال أصحابنا : أي موضع أدَّى فيه أجزاه " ، ويدل عليه أنّا لم نر في الأصول صدقة مخصوصة بموضع حتى لا يجوز أداؤها في غيره ، ألا ترى أن كفّارات الأيمان والنذور وسائر الصدقات لا يختصُّ جوازُها بأدائها في مكان دون غيره ؟ ورُوي عن طاوس أن معاذاً قال لأهل اليمن : " ائتوني بخَمِيس أو لَبِيس آخذه منكم في الصدقة مكان الذرة والشعير فإنه أيْسَرُ عليكم وخير لمن بالمدينة من المهاجرين والأنصار " ، فهذا يدل على أنه كان ينقلها من اليمن إلى المدينة ؛ وذلك لأن أهل المدينة كانوا أحوج إليها من أهل اليمن . ورَوَى عدي بن حاتم أنه نقل صدقة طيّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلادهم بالبعد من المدينة ، ونقل أيضاً عديُّ بن حاتم والزبرقان بن بدر صدقات قومهما إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه من بلاد طيّ وبلاد بني تميم فاستعان بها على قتال أهل الردة وإنما كرهوا نقلها إلى بلد غيره إذا تساوى أهل البلدين في الحاجة ، لما رُوي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن : " أَعْلِمْهُمْ أَنَّ الله قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ حَقّاً في أَمْوَالِهِمْ يُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ ويُرَدُّ في فُقَرَائِهِمْ " ، وذلك يقتضي رَدّها في فقراء المأخوذين منهم .
وإنما قال أبو حنيفة إنه يجوز له نقلها إلى ذي قرابته في بلد آخر لما حدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا علي بن محمد قال : حدثنا أبو سلمة قال : حدثنا حماد بن سلمة عن أيوب وهشام وحبيب عن محمد بن سيرين عن سلمان بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " صَدَقَةُ الرَّجُلِ عَلَى قَرَابَتِهِ صَدَقَةٌ وصِلَةٌ " . وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال : حدثنا موسى بن زكريا قال : حدثنا أحمد بن منصور قال : حدثنا عثمان بن صالح : حدثنا ابن لهيعة عن عطاء عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الصدقة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إِنَّ الصَّدَقَةَ على ذي القَرَابَةِ تُضَاعَفُ مَرَّتَيْنِ " . وقال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث زينب امرأة عبدالله حين سألته عن صدقتها على عبدالله وأيتام بني أخ لها في حِجْرِها ، فقال : " لَكِ أَجْرَانِ أَجْرُ الصَّدَقَةِ وأَجْرُ القَرَابَةِ " . وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا علي بن الحسين بن يزيد الصدائي قال : حدثنا أبي قال : حدثنا ابن نمير عن حجاج عن الزهري عن أيوب بن بشير عن حكيم بن حزام قال : قلت : يا رسول الله أيّ الصدقة أفضل ؟ قال : " على ذي الرَّحِمِ الكَاشِحِ " . فثبت بهذه الأخبار أن الصدقة على ذي الرحم المحرم وإن بعدت داره أفضل منها على الأجنبي ؛ فلذلك قال : " يجوز نقلها إلى بلد آخر إذا أعطاها ذا قرابته " . وإنما قال أصحابنا في صدقة الفطر : " إنه يؤديها عن نفسه حيث هو وعن رفيقه وولده حيث هم " لأنها مؤداة عنهم ، فكما تؤدَّى زكاة المال حيث المال كذلك تؤدَّى صدقة الفطر حيث المؤدَّى عنه .
فيما يُعْطَى مسكين واحد من الزكاة
كان أبو حينفة يكره أن يُعْطَى إنسان من الزكاة مائتي درهم وإن أعطيته أجزاك ، ولا بأس بأن تعطيه أقلّ من مائتي درهم ، قال : " وأن يغني بها إنساناً أحبُّ إليّ " . وروى هشام عن أبي يوسف في رجل له مائة وتسعة وتسعون درهماً فتصدق عليه بدرهمين : " أنه يقبل واحداً ويردّ واحداً " ، فقد أجاز له أن يقبل تمام المائتين وكره أن يقبل ما فوقها ، وأما مالك بن أنس فإنه يرد الأمر فيه إلى الاجتهاد من غير توقيف ، وقول ابن شبرمة فيه كقول أبي حنيفة . وقال الثوري : " لا يُعْطَى من الزكاة أكثر من خمسين درهماً إلا أن يكون غارماً " ، وهو قول الحسن بن صالح . وقال الليث : " يُعْطَى مقدار ما يبتاع به خادماً إذا كان ذا عيال والزكاة كثيرة " . ولم يحدّ الشافعي شيئاً واعتبر ما يرفع الحاجة .
قال أبو بكر : قوله تعالى : { إِنَّما الصَّدَقَاتُ للفُقَرَاءِ والمَسَاكِينِ } ليس فيه تحديد مقدار ما يُعْطَى كل واحد منهم ، وقد علمنا أنه لم يُرِدْ به تفريقها على الفقراء على عدد الرؤوس لامتناع ذلك وتعذره ، فثبت أن المراد دفعها إلى بعض أيّ بعض كان وأقلّهم واحد ، ومعلوم أن كل واحد من أرباب الأموال مخاطَبٌ بذلك فاقتضى ذلك جواز دفع كل واحد منهم جميع صدقته إلى فقير واحد قلَّ المدفوعُ أو كثر ، فوجب بظاهر الآية جواز دفع المال الكثير من الزكاة إلى واحد من الفقراء من غير تحديد لمقداره . وأيضاً فإن الدفع والتمليك يصادفانه وهو فقير ، فلا فرق بين دفع القليل والكثير لحصول التمليك في الحالتين للفقير ، وإنما كره أبو حنيفة أن يُعْطى إنساناً مائتي درهم لأن المائتين هي النصاب الكامل فيكون غنيّاً مع تمام ملك الصدقة ، ومعلوم أن الله تعالى إنما أمر بدفع الزكوات إلى الفقراء لينتفعوا بها ويتملكوها ، فلا يحصل له التمكين من الانتفاع إلا وهو غنيّ ؛ فكره من أجل ذلك دَفْعَ نصاب كامل ، ومتى دفع إليه أقل من النصاب فإنه يملكه ويحصل له الانتفاع بها وهو فقير فلم يكرهه ، إذْ القليل والكثير سواء في هذا الوجه إذا لم يصر غنيّاً ، فالنصاب عند وقوع التمليك والتمكين من الانتفاع . وأما قول أبي حنيفة : " وأن يغني بها إنساناً أَحَبُّ إليّ " فإنه لم يرد به الغنى الذي تجب عليه به الزكاة وإنما أراد أن يعطيه ما يستغني به عن المسألة ويكفّ به وجهه ويتصرف به في ضرب من المعاش .
واختلف فيمن أعطى زكاته رجلاً ظاهره الفقر فأعطاه على ذلك ثم تبين أنه غنيّ ، فقال أبو حنيفة ومحمد : " يجزيه ، وكذلك إن دفعها إلى ابنه أو إلى ذمّي وهو لا يعلم ثم علم أنه يجزيه " . وقال أبو يوسف : " لا يجزيه " . ذهب أبو حنيفة في ذلك إلى ما رُوي في حديث معن بن يزيد أن أباه أخرج صدقة فدفعها إليه ليلاً وهو لا يعرفه ، فلما أصبح وقف عليه فقال : ما إياك أردت ، واختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له : " لَكَ ما نَوَيْتَ يا يَزِيدُ " وقال لمعن : " لكَ ما أَخَذْتَ " ، ولم يسأله أنويتها من الزكاة أو غيرها بل قال : " لك ما نويت " ، فدل على جوازها إن نواها زكاة . وأيضاً فإن الصدقة على هؤلاء قد تكون صدقة صحيحة من وجه في غير حال الضرورة ، وهو أن يتصدق عليهم صدقة التطوع ، فأشبهت من هذا الوجه الصلاة إلى الكعبة إذا أدّاها باجتهاد صحيح ثم تبين أنه أخطأها كانت صلاته ماضية ، إذ كانت الصلاة إلى غير جهة الكعبة قد تكون صلاة صحيحة من غير ضرورة وهو المصلِّي تطوعاً على الراحلة ، فكان إعطاء الزكاة باجتهاد مشبهاً لأداء الصلاة باجتهاد على النحو الذي ذكرنا .
فإن قيل : إنما يشبه مسألة الزكاة من توضأ بماء يظنه طاهراً ثم علم أنه كان نجساً فلا تجزيه صلاته لأنه صار من اجتهاد إلى يقين ، كذلك مؤدّي الزكاة إلى غنيّ أو ابنه أو ذميّ إذا علم فقد صار من اجتهاد إلى يقين ، فبطل حكم اجتهاده ووجبت عليه الإعادة . قيل له : ليس كذلك ؛ لأن الوُضُوءَ بالماء النَّجس لا يكون طهارة بحال فلم يكن للاجتهاد تأثير في جوازه ، وترك القبلة جائز في أحوال ، فمسألتنا بما ذكرناه أشبه .
فإن قيل : الصلاة قد تجوز في الثوب النجس في حال ومع ذلك فلو أدّاها باجتهاد منه في طهارة الثوب ثم تبين النجاسة بطلت صلاته ووجبت عليه الإعادة ، ولم يكن جواز الصلاة في الثوب النجس بحال موجباً لجواز أدائها بالاجتهاد متى صار إلى يقين النجاسة . قيل له : أغْفَلْتَ معنى اعتلالنا ؛ لأنا قلنا إن ترك القبلة جائز من غير ضرورة كجواز إعطاء هؤلاء من صدقة التطوع من غير ضرورة فكانا متساويين من هذا الوجه ، ألا ترى أنه لا ضروة بالمصلّي على الراحلة في فعل التطوع كما لا ضرورة بالمتصدق صدقة التطوع على ما ذكرنا ؟ فلما استويا من هذا الوجه اشتبها في الحكم ، وأما الصلاة في الثوب النجس فغير جائزة إلا في حال الضرورة ويستوي فيه حكم مصلِّي الفرض أو متنفل ، فلذلك اختلفا .
باب دفع الصدقات إلى صنف واحد
قال الله تعالى : { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالمَسَاكِينِ } الآية . فروى أبو داود الطيالسي قال : حدثنا أشعث بن سعيد عن عطاء عن سعيد بن جبير عن علي وابن عباس قالا : " إذا أعطى الرجل الصدقة صنفاً واحداً من الأصناف الثمانية أجزأه " ، ورُوي مثل ذلك عن عمر بن الخطاب وحذيفة وعن سعيد بن جبير وإبراهيم وعمر بن عبد العزيز وأبي العالية ، ولا يروى عن الصحابة خلافه ، فصار إجماعاً من السلف لا يسع أحداً خلافه لظهوره واستفاضته فيهم من غير خلاف ظهر من أحد من نظرائهم عليهم . وروى الثوري عن إبراهيم بن ميسرة عن طاوس عن معاذ بن جبل : " أنه كان يأخذ من أهل اليمن العروض في الزكاة ويجعلها في صنف واحد من الناس " ، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد وزفر ومالك بن أنس . وقال الشافعي : " تقسم على ثمانية أصناف إلا أن يُفقد صِنْفٌ فتقسم في الباقين لا يجزي غيره " ، وهذا قول مخالف لقول من قدّمنا ذكره من السلف ومخالف للآثار والسنن وظاهر الكتاب ، قال الله تعالى : { إن تبدوا الصدقات فنعمّا هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم } [ البقرة : 271 ] وذلك عموم في جميع الصدقات لأنه اسم للجنس لدخول الألف واللام عليه ، فاقتضت الآية دفع جميع الصدقات إلى صنف واحد من المذكورين وهم الفقراء ، فدل على أن مراد الله تعالى في ذكر الأصناف إنما هو بيان أسباب الفقر لا قسمتها على ثمانية . ويدل عليه أيضاً قوله تعالى : { في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم } [ المعارج : 24 و 25 ] وذلك يقتضي جواز إعطاء الصدقة هذين دون غيرهما ، وذلك ينفي وجوب قسمتها على ثمانية . وأيضاً فإن قوله تعالى : { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ } عموم في سائر الصدقات وما يحصل منها في كل زمان ، وقوله تعالى : { لِلْفُقَرَاءِ } إلى آخره عموم أيضاً في سائر المذكورين من الموجودين ومن يحدث منهم ، ومعلوم أنه لم يرد قسمة كل ما يحصل من الصدقة في الموجودين ومن يحدث منهم لاستحالة إمكان ذلك إلى أن تقوم الساعة ، فوجب أن يجزي إعطاء صدقة عام واحد لصنف واحد وإعطاء صدقة عام ثان لصنف آخر ثم كذلك صدقة كل عام لصنف من الأصناف على ما يرى الإمام قسمته ، فثبت بذلك أن صدقة عام واحد أو رجل واحد غير مقسومة على ثمانية . وأيضاً لا خلاف أن الفقراء لا يستحقونها بالشركة وأنه جائز أن يحرم البعض منهم ويُعْطَى البعض ، فثبت أن المقصد صرفها في بعض المذكورين ، فوجب أن يجوز إعطاؤها بعض الأصناف كما جاز إعطاؤها بعض الفقراء ؛ لأن ذلك لو كان حقّاً لهم جميعاً لما جاز حرمان البعض وإعطاء البعض . قال أبو بكر : ويدل عليه ما رُوي في حديث سلمة بن صخر حين ظاهر من امرأته ولم يجد ما يطعم ، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن ينطلق إلى صاحب صدقة بني زُرَيْقٍ ليدفع إليه صدقاتهم ؛ فأجاز النبي صلى الله عليه وسلم دفع صدقاتهم إلى سلمة ، وإنما هو من صنف واحد . وفي حديث عبيد الله بن عدي بن الخيار في الرجلين اللذين سألا النبي صلى الله عليه وسلم مِنَ الصدقة ، فرآهما جَلْدَيْنِ فقال : " إِنْ شِئْتُما أَعْطَيْتُكُمَا " ولم يسألهما من أي الأصناف هما ليحسبهما من الصنف . ويدل على أنها مستحقة بالفقر قوله صلى الله عليه وسلم : " أُمِرْتُ أَنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ وأَرُدَّها في فُقَرَائِكُمْ " ، وقال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن : " أَعْلِمْهُمْ أَنّ الله تَعَالَى فَرَضَ عَلَيْهِمْ حَقّاً في أَمْوَالِهِمْ يُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَيُرَدُّ في فُقَرَائِهِمْ " ، فأخبر أن المعنى الذي به يستحق جميع الأصناف هو الفقر ؛ لأنه عمَّ جميع الصدقة وأخبر أنها مصروفة إلى الفقراء ، وهذا اللفظ مع ما تضمن من الدلالة يدل على أن المعنى المستحق به الصدقة هو الفقر ، وأن عمومه يقتضي جواز دفع جميع الصدقات إلى الفقراء حتى لا يعطى غيرهم ، بل ظاهر اللفظ يقتضي إيجاب ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم : " أُمِرْتُ " .
فإن قيل : العامل يستحقه لا بالفقر . قيل له : لم يكونوا يأخذونها صدقة وإنما تحصل الصدقة للفقراء ثم يأخذها العامل عوضاً من عمله لا صدقة ، كفقير تصدق عليه فأعطاها عوضاً عن عمل عمل له ، وكما كان يُتَصَدَّقُ على بريرة فتهديه للنبي صلى الله عليه وسلم هدية للنبي وصدقة لبريرة .
فإن قيل : فإن المؤلَّفة قلوبهم قد كانوا يأخذونها صدقة لا بالفقر . قيل له : لم يكونوا يأخذونها صدقة وإنما كانت تحصل صدقة للفقراء فيدفع بعضها إلى المؤلفة قلوبهم لدفع أذِيَّتِهِمْ عن فقراء المسلمين وليسلموا فيكونوا قوة لهم ، فلم يكونوا يأخذونها صدقة بل كانت تحصل صدقة فتصرف في مصالح المسلمين ، إذْ كان مال الفقراء جائزاً صرفه في بعض مصالحهم إذْ كان الإمام يلي عليهم ويتصرف في مصالحهم . فأما ذكر الأصناف فإنما جاء به لبيان أسباب الفقر على ما بيّنا ، والدليل عليه أن الغارم وابن السبيل والغازي لا يستحقونها إلا بالحاجة والفقر دون غيرهما ، فدل على أن المعنى الذي به يستحقونها هو الفقر .
فإن قيل : روى عبد الرّحمن بن زياد بن العم عن زياد بن نعيم أنه سمع زياد بن الحارث الصدائي يقول : أمّرني رسول الله صلى الله عليه وسلم على قوم ، فقلت : أعطني من صدقاتهم ! ففعل وكتب لي بذلك كتاباً ، فأتاه رجل فقال : أعطني من الصدقة ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إِنَّ الله عَزَّ وجَلَّ لم يَرْضَ بحُكْمِ نَبيٍّ ولا غَيْرِهِ حَتَّى حَكَمَ فِيها مِنَ السَّمَاءِ فَجَزَّأَهَا ثَمَانِيَةَ أَجْزَاءٍ فَإِنْ كُنْتَ مِنْ تِلْكَ الأَجْزَاءِ أَعْطَيْتُكَ مِنْهَا " . قيل له : هذا يدل على صحة ما قلنا ؛ لأنه قال : " إن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك " فبان أنها مستحقة لمن كان من أهل هذه الأجزاء ، وذكر فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب للصدائي بشيء من صدقة قومه ولم يسأله من أي الأصناف هو ، فدل ذلك على أن قوله : " إنّ الله تعالى جزّأها ثمانية أجزاء " معناه ليوضع في كل جزء منها جميعها إنْ رأى ذلك الإمام ولا يخرجها عن جميعهم . وأيضاً فليس تخلو الصدقة من أن تكون مستحقة بالاسم أو بالحجة أو بهما جميعاً ، وفاسدٌ أن يقال هي مستحقة بمجرد الاسم لوجهين ، أحدهما : أنه يوجب أن يستحقها كل غارم وكل ابن سبيل وإن كان غنيّاً ، وهذا باطل . والوجه الثاني : أنه كان يجب أن يكون لو اجتمع له الفقر وابن السبيل أن يستحق سهمين ، فلما بطل هذان الوجهان صح أنها مستحقة بالحاجة .
فإن قيل : قوله تعالى : { إِنَّما الصَّدَقَاتُ للْفُقَرَاءِ وَالمَسَاكِينِ } الآية ، يقتضي إيجاب الشركة ، فلا يجوز إخراج صنف منها ، كما لو أوصى بثلث ماله لزيد وعمرو وخالد لم يحرم واحد منهم . قيل له : هذا مقتضى اللفظ في جميع الصدقات ، وكذلك نقول ، فيعطي صدقة العام صنفاً واحداً ويعطي صدقة عام آخر صنفاً آخر على قدر اجتهاد الإمام ومجرى المصلحة فيه ، وإنما الخلاف بيننا وبينكم في صدقة واحدة هل يستحقها الأصناف كلها ، وليس في الآية بيان حكم صدقة واحدة وإنما فيها حكم الصدقات كلها ، فتقسم الصدقات كلها على ما ذكرنا فنكون قد وفينا الآية حقَّها من مقتضاها واستعملنا سائر الآي التي قدمنا ذكرها والآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم وقول السلف ، فذلك أوْلى من إيجاب قسمة صدقة واحدة على ثمانية ورَدِّ أحكام سائر الآي والسنن التي قدمنا . وبهذا المعنى الذي ذكرنا انفصلت الصدقات من الوصية بالثلث لأعيانٍ لأن المسمّين لهم محصورون ، وكذلك الثلث في مال معين فلا بد من أن يستحقوه بالشركة . وأيضاً فلا خلاف أن الصدقات غير مستحقة على وجه الشركة للمسمَّيْنَ لاتفاقهم على جواز إعطاء بعض الفقراء دون بعض ، ولا جائزٌ إخراج بعض المُوصَى لهم . وأيضاً لما جاز التفضيل في الصدقات لبعض على بعض ولم يجز ذلك في الوصايا المطلقة ، كذلك جاز حرمان بعض الأصناف كما جاز حرمان بعض الفقراء ، ففارق الوصايا من هذا الوجه . وأيضاً لما كانت الصدقة حقّاً لله تعالى لا لآدميّ بدلالة أنه لا مطالبة لآدميّ يستحقها لنفسه ، فأي صنف أُعْطِيَ فقد وضعها موضعها ، والوصية لأعيانٍ حقٌّ لآدمي لا مطالبة لغيرهم بها ، فاستحقوها كلهم كسائر الحقوق التي للآدميين . ويدل على ذلك أن الله أوجب في الكفارة إطعام مساكين ولو أعطى الفقراء جاز ، فكذلك جائز أن يعطي ما سمَّى للمساكين في آية الصدقات للفقراء والوصية مخالفة لذلك ؛ لأنه لو أوصى لزيد لم يعط عمرو .